الميت الذي يُعذب ببكاء أهله عليه
يتعجل البعض بالطعن والتشكيك في قوله صلى الله عليه وسلم: "الميت يُعذب ببكاء أهله عليه"، ويرده بدعوى أنه مخالف لظاهر قوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
أما الموقنون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وأن ما صحَّ عنه لم يمكن أن يعارض كتاب الله، لأن الكل من الوحي، فإنهم لا يتعجلون في رد السنن وإنكارها، وإنما يبحثون عن توفيق أهل العلم المختصين لها.
فالميت الذي يعذب ببكاء أهله عليه هو الذي يوصي بذلك، كما كان بعض الجاهليين يقول لبنته مثلاً: إذا أنا مت فقولي في كذا وكذا؛ أوذلك الشخص الذي هو متيقن من جزعهم وتسخطهم ثم لا يحذرهم وينهاهم عن ذلك في حياته؛ أما إذا حذرهم ونهاهم وتبرأ من صنيعهم هذا فلا يناله شيء من بكائهم ولو ناحوا عليه الدهر كله، والله أعلم.
تجوز التعزية قبل وبعد الدفن، واستحب بعض أهل العلم أن تستمر لمدة ثلاثة أيام للحاضرين، أما الغائبين فمتى حضروا عزوا، وليس في تحديد ذلك نص.
قال النووي: (والثلاثة على التقريب لا على التحديد.. وقال أصحابنا: وتكره العزية بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكون قلبه بعد الثلاثة، فلا يجدد له الحزن، هكذا قاله الجماهير من أصحابنا. وقال أبو العباس بن القاص من أصحابنا: لا بأس بالتعزية بعد الثلاثة، بل تبقى أبداً وإن طال الزمان.. وقال أصحابنا: التعزية بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر).
التحدث بأمور الدنيا والضحك في أثناء التشييع
رحم الله سعد بن معاذ رضي الله عنهما عندما قال: "ما صليتُ على جنازة إلا وحدثت نفسي بما تقول ويُقال لها"، من لم يتعظ بالموت فبم يتعظ؟ ولهذا رأى عبد الله بن مسعود رجلاً يضحك وهو مشيع جنازة، فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟! والله لا أكلمك أبداً.
ينبغي لمشيع الجنازة أن يتذكر أن هذا مصيره، فعليه أن يعد له العدة.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإن لم يراع حاله فعليه أن يراعي شعور أهل الميت المحزونين.
بعض الناس يغتاب في المقبرة، ويضحك، ويدخن، ويجري صفقات تجارية عن طريق الجوال أومع أشخاص، وكأنه في متجره أومنتزه.
كان سفيان الثوري رحمه الله إذا شهد جنازة لم ينتفع لمدة ثلاثة أيام.
وقال ابن الحاج المالكي في المدخل: (وهذا وما شاكله ضد ما كانت عليه جنائز السلف الماضين رضي الله عنهم أجمعين، لأن جنائزهم كانت على التزام الأدب، والسكون والخشوع، والتضرع، حتى إن صاحب المصيبة كان لا يعرف من بينهم، لكثرة حزن الجميع، وما أخذهم من القلق والانزعاج بسبب الفكرة فيما هم إليه صائرون، وعليه قادمون، حتى لقد كان بعضهم يريد أن يلقى صاحبه لضرورات تقع له عنده، فيلقاه في الجنازة فلا يزيد على السلام الشرعي شيئاً، لشغل كل منهما بما تقدم ذكره، حتى إن بعضهم لا يقدر أن يأخذ الغداء تلك الليلة لشدة ما أصابه من الجزع، كما قال الحسن البصري رضي الله عنه: ميتُ غدٍ يشيع ميتَ اليوم).
الجلوس للعزاء ونصب الصيوانات لذلكمن البدع التي أحدثها البعض الجلوس للعزاء ونصب الصيوانات لذلك، وكان هديه صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك حيث كان يوجه أهل الميت بالصبر والاحتساب وعدم إحداث أمر زائد، فلم يصح أنه جلس لتقبل العزاء لا هو ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، مما يدل على بدعية ذلك بهذه الكيفية التي نشاهدها، سيما عندنا في السودان، وإن اختصرت إلى يومين أويوم عما كانت عليه في الماضي، حيث كان الجلوس يتراوح بين السبعة أيام والشهر، وهذا النهي يشمل الرجال والنساء، لكن يمكن أن يجلس بعض الأهل والأقارب ليصبروا ذويهم في مصابهم إن دعت الحال، من غير نصب صيوانات، فهذا لا بأس به، والله أعلم.
عندما نعى النبي صلى الله عليه وسلم شهداء مؤتة جلس في المسجد يعرف على وجهه الحزن، ولم يكن جلوسه هذا لتلقي العزاء، ولكن لعظم الفاجعة.
خرَّج البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جاء النبي قتل ابن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، جلس يعرف في وجهه الحزن.." الحديث.
قال الحافظ ابن حجر معللاً لجلوسه هذا: (قال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة تظهر عليه مخايل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة).
أما ما استخلصه من الحديث بقوله: "وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار"، ففيه نظر، إذ مجرد الجلوس عند المصيبة لا يعني الجلوس للعزاء، وإنما سبب هذا الجلوس العناء النفسي والجسدي في بعض الأحيان، وإلا لو كان جلوسه للعزاء لفعله هو وأصحابه فيما بعد.
ويدل على ذلك كراهة أهل العلم قديماً وحديثاً للجلوس للتعزية.
قال النووي رحمه الله: (قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمراً آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح: "إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وقال ابن عَلان في شرحه كتاب الأذكار للنووي: (يكره الجلوس للتعزية، قالوا: لأنه محدث هو بدعة، ولأنه يجدد الحزن، ويكلف المعزَّى، وما ثبت عن عائشة: "من أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء خبر قتل زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن"، فلا نسلم أن جلوسه كان لأجل أن يأتيه الناس فيعزوه، فلم يثبت ما يدل عليه).
وقال ابن الحاج المالكي محذراً من هذه البدعة: (وكذلك يحذر مما أحدثه بعضهم من ترك الفرش التي تجعل في بيت الميت لجلوس من يأتي إلى التعزية، فيتركونها كذلك حتى تمضي سبعة أيام، ثم بعد ذلك يزيلونها).
في بعض البلاد يستقبل أهل الميت المعزين في ساعات معينة، مثلاً بين المغرب والعشاء، لمدة يوم أويومين أوثلاثة، لا شك أن هذا أخف وأيسر من الجلوس المتواصل طيلة اليوم والليلة.
قلت: لا يعني النهي عن الجلوس للعزاء عدم مجيء المعزين، فيمكن للإنسان أن يأتي يعزي ويتحرك، أويجلس مع أهل الميت في بيتهم الذي يسكنون فيه.
تكلف أهل الميت صنع الطعام للمعزينهذه البدعة السيئة قامت على أنقاض سنة حسنة وهي أن يعمل الأهل والجيران طعاماً لأهل الميت اقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم عند استشهاد جعفر رضي الله عنه: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمر شغلهم".
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء في رد على مشروعية ما يفعله أهل الميت من صنع الطعام: (أما إقامة المأتم وبناء الصواوين لتقبل العزاء وإطعام الحاضرين الطعام فليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والخير كل الخير في اتباع هديه والاقتداء بسنته، قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً".
وخرج الإمام أحمد بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة).
وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: "فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها".
إي وربي كانت هذه السنة موجودة، وكان ما يحضره الأهل والجيران يكفي أهل الميت وضيوفهم ويفيض.
ليت الأمر وقف عند صنع أهل الميت الطعام للمعزين وهو أمر منكر وسنة سيئة، ولكنه تعدى ذلك للتفاخر والتكلف حتى أضحت تكاليف العزاء تفوق في بعض الأحيان تكاليف الزواج، وفي أحيان كثيرة تكون الولائم المعدة والأصناف المحضرة في ولائم العزاء أحسن بكثير من ولائم العرس.
يصل الأمر في حالات إلى عدم التمييز بين صوانات العزاء والفرح، ومن الطرائف أن صغيراً رأى الصيوانات قد نصبت، والكراسي رصت، وحافظات الماء وزعت، فما كان منه إلا أن سأل: متى يحضر الفنان؟ لأنه لم ير فرقاً يذكر بين مراسم العزاء ومراسم العرس، وفي بعض الاحيان ما يعود الناس مع تشييع الميت إلا ويجدوا الذبائح قد علقت!!
يفعل كل هذا وزيادة تقليداً ومجاراة للأعراف والتقاليد مع ضيقهم من ذلك وشكواهم مما يعانون منه ويكابدونه، يزداد الأمر حرمة وسوءاً إذا كان هذا الطعام يصنع من مال الورثة، وفي أحيان كثيرة لا تغطي مساهمات الأهل والأصدقاء تكاليف "الفراش" مما يضطر معه لتكليف الأقربين لتغطية العجز، ولو قدمت هذه الأموال لأهل الميت وقد يكونون في أمس الحاجة إليها لكان في ذلك خيراً كثيراً ومواساة مشكورة.
عمل صدقة من الطعام يدعون إليها بعض القراء والفقراء في أوقات محددة، في اليوم الثالث، أوبعد أسبوع، أوبعد أربعين يوماً، ونحو ذلكهذه أيضاً من بدع المآتم السيئة التي درج عليها كثير من المسلمين، ويحسبون ذلك هيناً وهو عند الله عظيم، لمخالفة ذلك لهدي سيد المرسلين، ويحسبون أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى موتاهم على الرغم من إنكار أهل العلم قديماً وحديثاً لهذه البدعة ولغيرها، فلا يزال الناس متمسكين بها ومتوسعين فيها.
قال ابن الحاج المالكي: (وكذلك يحذر مما أحدثه بعضهم، من فعل الثالث للميت، وعملهم الأطعمة فيه، حتى صار عندهم أمر معمول به، ويشيعونه كأنه وليمة عرس، ويجمعون لأجله الجمع الكثير من الأهل والأصحاب والمعارف، فإن بقي أحد منهم وجدوا عليه.
ثم إنهم لم يقتصروا على ذلك حتى يقرأوا هناك القرآن العظيم على عوائدهم المعهودة منهم بالألحان والتطريب الخارج عن حد القراءة المشروعة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة، بل قال جرير بن عبد الله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء وقد سئلت: "ما حكم ذبح ذبيحة أوأكثر في البيت على روح الميت عند مضي أربعين يوماً على وفاته، وإطعامها الناس بقصد التقرب إلى الله ليغفر لميتهم، ويرحمه، ويسمونها الرحمة، أوعشاء الميت؟"، فقالت: (ما ذكرت من الذبح على روح الميت عند مضي أربعين يوماً عليه من تاريخ وفاته وإطعامها للناس تقرباً إلى الله رجاء المغفرة والرحمة بدعة منكرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يفعله الخلفاء الراشدون ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولا أئمة أهل العلم، فكان إجماعاً على عدم مشروعيته).
هذا مع العلم أن لا مانع أن يتصدق المرء عن ميته بنقود أوطعام ويهدي أجر ذلك للميت، شريطة أن لا تكون في أيام معينة، ولا بكيفية معينة، وإنما هي من جملة الصدقات التي تعمل في جميع الأوقات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق