الجمعة، 15 يونيو 2012

دور دولة الرعاية الاجتماعية في الحد من آثار الفقر الملتقى الدولي حول ظاهرة الفقر د. علاش أحمد جامعة سعد دحلب ـ البليدة



مدخل:
لقد أنشأت الاقتصاديات الحديثة فارقا كبـيرا بين الفقراء وأصحاب الثروة، سواء على مستوى الدول، أو بين الأفراد في الدولة الواحدة، وهذا ما يجعل مسؤولية الدولة تجاه رعاياها أوسع مما كانت عليه في السابق، بحيث تعمل على تجاوز المشاكل الناجمة عن الفقر من خلال برامج تسمح بتجاوز الآثار السلبية للتقلبات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، وتحتاط لمثل هذه الأمور تجنبا لتعميق ظاهرة الفقر وتوسعها.
إن الفقر موجود من زمن بعيد، وأسبابه متعددة ومتشابكة، وتسعى الدول بمختلف البرامج الاقتصادية والاجتماعية إلى تقليص نسبته، إذ لا يمكن القضاء عنه كلية نظرا لضعف الأداء الاقتصادي أو لقلة الموارد الاقتصادية والمالية، أو لسوء توزيع الثروة .

وعليه فإن الدولة يجب أن تتحمل مسؤولياتها من خلال برامج تصحيحية أو احترازية، وهذا ما سوف نراه من خلال هذا المبحث .



أولا : ضرورة الرعاية في ظل اقتصاد متقلب

يذهب الفكر الاقتصاد الحديث إلى مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية ـ وهذا بعد الحديث عن الدولة الصناعية الكبرى ـ وتهدف دولة الرعاية إلى تكوين صمام الأمان الضروري للحد من الآثار السلبية للعولمة على الفقراء في العالم، فيقع على عاتق الدولة تحقيق العدل وتوفير الكفاية للفرد والمجتمع في مجال الحياة الاقتصادية(1) وهذا باعتبار أن العالم يسير نحو شمولية النظام الرأسمالي اللبـيرالي الذي يعتمد على الحرية الفردية والمبادرة الخاصة، أي العودة إلى النشاط الاقتصادي الذي يسمح بالثراء الواسع للأفراد ولو على حساب المجتمع، وهذا ما يجعل الطبقات الضعيفة تعيش حد الكفاف لا حد الكفاية .
وعلى المستوى الكلي فإن المجتمعات الفقيرة المتوجهة نحو اقتصاد السوق ـ بعدما جرّبت نماذج تنموية مختلفة ـ تحتاج إلى تدعيم دور الدولة الإيجابي في الاقتصاد بما يحمي الطبقات الفقيرة، والتي يجب أن تُرعى حقوقهم كما تُرعى وتصان ملكية الأغنياء من الاعتداء والسرقة والإتلاف .

إن تباطؤ الاقتصاد العالمي يؤدي إلى إلحاق الضرر بالطبقات الفقيرة، وهذا إما بالتسريح من العمل، بما يرفع معدلات البطالة، أو بتخفيض أجورهم بما يضعف القدرة الشرائية لديهم، الأمر الذي يحتم على الدولة تحسين شبكات الأمان الاجتماعي، أي البرامج التي تمنع الضرر الكلي على الفقراء في الحالات التي تظهر فيها الأزمات الاقتصادية، وأن تكون تلك السياسة السمة الدائمة لاقتصاديات البلدان النامية، التي تعاني الضعف في الأداء وعدم القدرة على المنافسة، هذا ما يساعد البلدان الفقيرة على تخفيض أعداد الفقراء وتحقيق المزيد من منافع العولمة مع تقليل مخاطرها(2) .

ويرى البنك الدولي في تقرير له(3) : أن نسبة سكان العالم المحميين في أي من الأوقات

في إطار شبكات أمان حكومية تقل عن ربع عدد سكان العالم . وتقل نسبة من يمكنهم التعويل على مدخراتهم أو أراضيهم أو أصولهم الخاصة الأخرى للتصدي لأزمات كتراجع النشاط الاقتصادي، أو الحرب الأهلية، أو الكوارث الطبيعية . والواقع أنه بين عامي 1990 و 1997، شهد ما يزيد عن 80 % من كافة البلدان النامية سنة واحدة على الأقل من معدلات نمو سلبية نتيجة لهذه النكسات .

أي أنه بسبب ضعف دخل الطبقات الفقيرة في الدول النامية، يكون ادخارها سالبا أو معدوما في أحسن الأحوال، وحسب النظرية الكينـزية فإن الاستهلاك والادخار يتبعان الدخل المتاح، وبوجود الاستهلاك التلقائي لدى الطبقات الفقيرة لا يمكن أن يكون لها ادخارا، بل تستهلك من مدخرات الآخرين، وبالتالي يستهلك كل الدخل لدى هذه الطبقة، ويتعدى ذلك إلى الاستدانة، فإذا ما حدثت أزمة اقتصادية تؤدي إلى انعدام الدخل أو تراجعه لدى هذه الفئة من المجتمع، لا يمكنها المحافظة على مستوياتها الاستهلاكية السابقة وهذا بسبب عدم وجود مدخرات لديها .

يبين هذا أن الأزمات الاقتصادية تصيب أكثر الطبقات محدودة الدخل، والتي أولى لها الإسلام عناية خاصة استنادا لأصل كرامة الإنسان، وحفاظا على تماسك المجتمع، وثبات المستوى الاستهلاكي في فترات انكماش الاقتصاد بسبب تراجع الطلب، وتستخدم في ذلك أدوات التكافل الاجتماعي، وكذا التحويلات من الدولة للطبقات المحرومة، وتمثل الزكاة الأصل في ذلك، وقد كان بيت المال في الدولة الإسلامية يحافظ على المستوى المعيشي للفقراء بمنحهم الأموال اللازمة حسب الحاجة، حتى أن عمر بن الخطاب t قد أعطى مالا لكل مولود جديد .

وفي الجهة المقابلة نلاحظ أن برامج الحماية الاجتماعية في البلدان مرتفعة الدخل ازداد بثبات واستمرار، تقدم منذ ولادة مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية، وهي التي تتولى رعاية فقراء المجتمع بوسائل مختلفة خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية(4)، هذا بالإضافة إلى نشاط الجمعيات الخيرية وتقديمها يد المساعدة للفقراء والمحتاجين .

في حين تمثل الرعاية الاجتماعية في العديد من البلدان النامية، وسيلة لتخفيف المعاناة على الطبقات المحرومة فقط في فترات الكوارث الطبيعية، وقد تكون في كثير من الأحيان مساعدات رمزية، أي لا تعمد الدولة إلى تقديم المساعدات الاجتماعية والاقتصادية إلا في حالات الضرورة القصوى، فهي إذن إجراءات تتخذ لضمان حياة الأفراد فقط، ولا تسعى تلك الإجراءات لتحقيق التنمية البشرية، واستخدام آليات الحماية الاجتماعية في أوقات الطوارئ لا يحقق الهدف الذي تسعى لتحقيقه التحويلات الاجتماعية في الدول المتقدمة، إضافة لذلك فإن ما تحققه عناية تلك الدول هو المحافظة على الموارد البشرية في كامل طاقاتها، بينما الدول المتخلفة تسعى من خلال عنايتها إلى إبقاء المحرومين على قيد الحياة، وبعد ذلك توضع تلك البرامج التدخلية جانبا عقب انتهاء الأزمة، ويُعتبر ذلك علاجا مؤقتا لمشاكل اقتصادية ناتجة عن كوارث طبيعية .

أما الرعاية الاجتماعية في الإسلام فإنها تُعتبر ركنا أساسيا من أركانه في كل الأحوال الاقتصادية(5)، وهذا نظرا لكون اختلاف مستويات المعيشة أمر واقعي، ولا يمكن لأي نظام اقتصادي أن يدعي التساوي بين مختلف طبقات المجتمع في المستوى المعيشي، ووجود فريضة الزكاة يؤكد ذلك، " فقد فرض الإسلام على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم، فيوفرون لهم ما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتـاء والصيف بمثـل ذلك، وبمسكن يحميهم من المطـر والشمس وعيون المارة، برهان ذلك قـول الله تعالى :} وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل {(1) وقال أيضـا : } وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم {(6) "(7) .

ويحذر البنك الدولي من أن أزمة شرق آسيا، التي ضربت الأسواق الناشئة، لا تبرز الضرورة الملحة لحماية الفقراء والمعرضين للمعاناة أثناء فترات الاضطراب والتغيـير الاقتصادي فحسب، بل تبيّن أيضا ضرورة وجود شبكات الأمان الاجتماعي قبل حدوث الأزمة لتعظيم فرص نجاح هذه الشبكات(8) .

وتعتبر وسائل التكافل الإسلامي من صدقات وأوقاف وكفارات وتفتيت الثروة بالميراث، والتزام الدولة بتوفير حد الكفاية للفئات الفقيرة في المجتمع، كلها وسائل دائمة للرعاية الاجتماعية، والمحققة لصمام الأمان الذي ينادي به البنك الدولي، إذ عند وقوع أزمة، قد يكون من الصعب على الحكومات العثور سريعا على التأييد السياسي والأموال والخبـرة اللازمة للاستجابة للطوارئ الاجتماعية، وكثيرا ما كانت الأزمات الاقتصادية سببا في حدوث أزمات سياسية عنيفة تؤدي إلى اختلالات هيكلية على كل المستويات .

وعليه يجب أن تصبح شبكات الأمان والحماية الاجتماعية في مختلف الدول السمة البارزة في واجبات الدولة تجاه رعاياها، وتمثل المعيار الأساسي للعمل على تحسين المستويات المعيشية في البلدان النامية، وهذا في ظل ازدياد مشاركة هذه البلدان في الاقتصاد العالمي، خاصة وأن نسبة مشاركتها ضعيفة جدا، بما لا يسمح لها من تحقيق مستويات مرتفعة من الدخل الوطني .

كما ينبغي أن يكون الغرض الإنمائي للحماية الاجتماعية متخطيا لدور الإنقاذ الدوري للفقراء والمعرضين للمعاناة، أي لا يكون مجرد تجاوز أزمة معينة، وإنما يجب أن يركز على إدماج الفقراء في النشاط الاقتصادي باستمرار، بما يضمن تحفيزا للنشاط الاقتصادي في فترات الرخاء، وصمام أمان للاقتصاد من مختلف الأزمات، وتمثل مشكلة إدماج الفقراء في النشاط الاقتصادي أكبر المشاكل التي تواجه الدول المتخلفة، التي تخسر هؤلاء على مستويين : الأول يتعلق بمساهمتهم في الإنتاج وبالتالي في تكوين الدخل الوطني، والثاني يخص إنفاقهم الاستهلاكي .

يقول إدواردو دوريان، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون التنمية البشرية(9)، ووزير التربية السابق في كوستا ريكا في الفترة 1994- 1998 " أوضحت أزمة الديون التي حدثت في أمريكا اللاتينية في الثمانينات، كما أظهرت أزمة جنوب شرق آسيا التي حدثت في نهاية التسعينات ( بداية من منتصف سنة 1997 )(10)، سرعة انقلاب حياة الناس رأسا على عقب نتيجة الانكماش الاقتصادي الحاد .

يؤكد ذلك أن الرخاء الاقتصادي في ظل اقتصاد متشابك القطاعات ،لم يعد سمة دائمة، وبالتالي فإن انقلاب الأوضاع الاقتصادية من النمو إلى الانكماش ومن الانتعاش إلى الركود، من شأنه أن يؤدي إلى أزمات اقتصادية واسعة، يتحمل ثقلها ذوي الدخل المحدود، وما لم يكن هناك برنامجا اجتماعيا دائما يحمي الطبقات الفقيرة من مثل هذه الأوضاع، كما أقره الإسلام من حقوق للفقراء في أموال الأغنياء، فإن الأزمات الاقتصادية من شأنها أن تؤدي إلى انحصار النشاط الاقتصادي بصورة أسرع، ويصبح الأمل في إيجاد حلول سريعة لتلك الأزمات ضعيفا، إضافة إلى توسع الأزمات الاقتصادية داخليا بسبب التشابك القطاعي .

ثانيا : أثر العولمة على الفقراء

وفي ظل العولمة الاقتصادية أصبحت اقتصاديات الدول أكثر ترابطا من أي وقت مضى، الأمر الذي يؤدي إلى عولمة الأزمات الاقتصادية، إذ ما إن تعلن إحدى الدول الرأسمالية الكبرى عن وجود مشاكل اقتصادية لديها، إلا وتأثرت اقتصاديات الدول الأخرى خاصة المتخلفة منها، فهل تسمح إمكانيات تلك الدول من حماية الفئات الاجتماعية الأكثر حرمانا، خاصة وأن احتياطاتها من المال والغذاء والدواء محدودة جدا .

ويتأكد لدينا من خلال ذلك أن الفقراء سوف يعانون في ظل الأزمات المختلفة أكثر من غيرهم، وبصفتهم يمثلون أوسع طبقة في المجتمعات المتخلفة، فإن انعدام دخلهم المتمثل في الأجر يجعلهم خارج دائرة الطلب الاستهلاكي، بما يعمق الأزمة الاقتصادية أكثر، إذ بتراجع الطلب الفعال يتراجع الاستثمار .

على هذا الأساس تعتبر شبكات الأمان الاجتماعي ضرورية لإنقاذ الذين يفقدون أعمالهم، ويتعرضون للآثار السلبية الناتجة عن ذلك، إلا أن النظام الذي يركز على مساعدة الفقراء في التصدي للأزمة عند حدوثها، يمكن أن يوقعهم في فخ الفقر نتيجة عدم إتاحة أية فرص عمل لهم، لذا ينبغي علينا إتباع نهجا أكثر شمولية يجعل الحماية الاجتماعية أشبه بنقطة انطلاق تمكّن الناس من القفز إلى حياة أكثر أمنا(11).

يحتاج الأمر إلى تمكين الطبقات الفقيرة من ممارسة العمل الذي يسمح لهم بالحصول على دخل، ومن ثم تكوين مدخرات مهما كانت ضعيفة، إلا أنها تسمح بمساعدة الدولة في أوقات الأزمات والكوارث في التصدي للآثار السلبية للأزمة، بما يقلص من ميزانية التدخل في تلك الظروف، فالاستـثمار البشري في ظل الظروف العادية يسمح بتجاوز تلك الأزمات بأقل التكاليف .

إن الدول الرأسمالية الكبرى التي تحاول عولمة أفكارها الاقتصادية والسياسية وغيرها لاعتقادها أنها النموذج الأمثل، وأن العالم قد وصل إلى قمة النضج، ولا يمكن بعده إنتاج نموذجا للحياة يفوق النموذج الحالي(12)، إذ يعتقدون أن العولمة تتيح فرصا هائلة للبلدان النامية لكي تزدهر، ولكنها أيضا قد تعرضها لمخاطر أكبر حجما ما لم تعتمد الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية اللازمة لاستغلال كوامن الاقتصاد العالمي، وهذا باعتبار أن الوقوف في وجه العولمة يبقي الدول المتخلفة خارج الإطار الحضاري(13) .

فلا يكفي ـ حسب مفكرو الدول الرأسمالية ـ أن تُستورد التجارب الاقتصادية الناجحة، ما لم يكن ذلك مصحوبا باستقبال نمط الحياة الغربي بكلياته وجزئياته، حتى تجد التجارب الرأسمالية الوسط الطبيعي للنجاح .

ويعتقد مصدرو العولمة ـ وهم الذين يعتقدون بنجاعة النظام الحر وصلاحيته لكل المجتمعات- أن استخدام التكنولوجيات يسرّع خطى التـنمية، أي بعيدا عن مراحل النمو لروستو، يمكن تحقيق الانطلاقة الاقتصادية لدول العالم الثالث، غير أن هذا النموذج في الوقت نفسه يميل إلى توسيع الفجوة بين من "يملكون" ومن "لا يملكون"، أي أن تتحقق التـنمية ـ إن تحققت ـ يضمن اقتصاد الرفاهية لفئة محدودة في المجتمع، وهي النسبة المتداولة 20 % إلى 80 %، سواء في داخل البلدان بين مختلف طبقاتها، أو فيما بين الدول ذاتها ـ أي بين الدول الغنية والفقيرة ـ وهذا ما يؤدي إلى نتائج عكسية على المدى المتوسط والبعيد .

كما يُعتقد من ناحية أخرى أن زيادة الانفتاح السياسي يحسّن نوعية نظام الإدارة العامة بالنسبة لشرائح أكبر من السكان، أي يمكن أن يكون الأخذ بالنموذج الرأسمالي المتكامل سببا في حصول التطور على مختلف الأصعدة للدول المتخلفة، ويدخل في هذا الإطار فرض النموذج الديمقراطي الذي يؤدي في الظاهر إلى حكم الأغلبية، وفي حقيقته يضمن الحكم لطبقة معروفة، وأن استفادة المجتمع من مثل هذا النموذج المتكامل في نظرهم، لا يحقق في الواقع إلى الطبقية في المجتمع على كل المستويات .

ونتيجة لذلك، أخذ الفقراء يجدون "صوتا" مسموعا ويطالبون بالمساعدة في إدارة المخاطر التي يواجهونها، نتيجة للتغيرات الاقتصادية التي أصبحت السمة الغالبة للاقتصاد الحديث، وهذا انطلاقا من استخدام حقوق الإنسان كوسيلة للمطالبة بالحقوق التي ظلت عقودا من الزمن بعيدة عن الواقع العملي، إلا أن درجة الاستجابة تكون متباينة بالنسبة لمختلف الشعوب، وكأن حقوق الإنسان لها درجات ودركات .

وفي ظل اقتصاد السوق الذي أصبح حتمية حسب رأي المحللين الاقتصاديين وحتى السياسيين أصبحت فترات الاستقرار الاقتصادي قصيرة جدا باعتبار أن الدورات الاقتصادية باتت متعاقبة إلى درجة لا نفرق بين عمر الرواج الاقتصادي والانكماش، ويحدث هذا حتى في الدول الأكثر تطورا، وهذا ما جعل فقراء العالم ينادون بضرورة توسيع نطاق التفكير بشأن الحماية الاجتماعية المستدامة على غرار التنمية المستدامة، والتي لا تعم نتائجها كل شرائح المجتمع خاصة في ظل التوزيع غير العادل للثروات والدخل الوطني في الدول النامية .

إن الفرد في الدول المتقدمة يوجد لديه الدخل المتاح الذي يكفيه للاستهلاك والادخار حتى إذا ما حدثت أزمة اقتصادية استطاع استخدام مدخراته، أو قام بتحويل الأصول الثابتة إلى سيولة، لكن لا يمكن للأفراد في الدول المتخلفة الاعتماد على قدراتهم الخاصة لمواجهة المخاطر، مثل شراء الأصول الثابتة في فترات الرواج للاستفادة منها في أوقات الأزمات، أو الاعتماد على أسلوب التأمين ضد المخاطر، وغيرها من الإجراءات التي ليست متاحة لكل شرائح المجتمع، وبالتالي يبقى خطر الأزمات الاقتصادية على الطبقات الفقيرة قائما، وتزيد حدة تلك المشاكل عندما تتبع الأزمة الاقتصادية أزمة سياسية، إذ ينعدم الاستقرار الذي يسمح بتجاوز الأزمة الاقتصادية، وهذا ما حدث في الجزائر في وقت الأزمة السياسية التي وصل عمرها إلى عشر سنوات، ومع تراجع أسعار النفط وزيادة المديونية الخارجية، واستغراق خدمات الديون لأغلب عائدات النفط، بذلك أصبحت الأزمة الاقتصادية أكثر انتشارا، ولم تكن للدولة القدرة على التخفيف من حدتها .

بناءً على ما سبق تصبح الترتيبات العامة لأغراض معالجة المخاطر أكثر إلحاحا، إلا أنها في الدول النامية نادرة ومحدودة نطاق التغطية، وذلك لأسباب اقتصادية وأسباب أخرى . وحين لا تكون هناك ترتيبات غير رسمية أو ترتيبات مستـندة إلى السوق لإدارة المخاطر، أو أنها معطلة أو غير عاملة، يجب على الحكومة أن تتيح أو تلزم المعنيين اعتماد برامج تأمين (اجتماعي) ضد المخاطر مثل : البطالة، الشيخوخة، إصابات العمل، العجز، والترمّل والمرض . ولهذا السبب، هناك قدر كبـير من الإجراءات التدخلية العامة في تحقيق القدرة من أجل التغلب على المخاطر(14) . ولتحقيق ذلك يشترط أن تكون فترة الرواج الاقتصادي قادرة على توفير مناصب للعمل لطالبيه، مع توفير حد أدنى من الأجور يسمح لكل العاملين بتوفير المبالغ المالية اللازمة للتأمين .

يقول روبرت هولتسمان، المدير المسؤول عن الحماية الاجتماعية في البنك الدولي وكبـير مؤلفي التقرير الجديد : " ينبغي على الجهات العاملة في ميدان التنمية تخطي المفهوم القائل بأن الحماية اﻻجتماعية معنية بالمال فقط، حيث أنه يمكن أن يساعد الناس في التغلب على أعراض الفقر لفترة ما دون فعل ما يستحق الذكر في سبيل القضاء على أسبابه . باعتماد هذه الاستراتيجية الجديدة لإدارة المخاطر، يقدم البنك الدولي للبلدان النامية، بالتشاور مع المجتمعات المحلية الفقيرة، المساعدة في وضع خطط الحماية الاجتماعية بما يلائم تقدير كل منها لمواقع الضعف، والتعرض للمعاناة لدى هذه المجتمعات، فإذا كنا قادرين على مساعدة المجتمعات المحلية على أن تكون متفاعلة بشأن تخفيض مدى تعرضها للمخاطر في المقام الأول، فإنه بوسعها القيام بالمزيد من الإجراءات لحماية نفسها من محن يمكن الحيلولة دون حدوثها، وبذا تعيش حياة أكثر أمنا "(15) .

فهل يمكن أن يكون هناك إقرارا أكثر من هذا بشأن مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها وما أقره الإسلام من أن الدولة الإسلامية عليها أن تضمن لكل فرد مسكنا يأويه، ومطعما يسد جوعته، ومشربا يروي غليله(16)، وللفرد الحق في الخروج على أولي الأمر، إذا لم يتوفر له ذلك، أي يطالب بحقه بكل الوسائل .

ويمكن لدولة الرعاية الاجتماعية بالمفهوم الحديث، وللدولة الإسلامية من خلال مسؤوليتها تجاه أفراد المجتمع، أن تتولى المهام التالية :

1. تخفيض احتمالات حدوث المخاطر

يعتبر تخفيض احتمالات حدوث المخاطر من بين الأدوات القوية في مجال إدارة المخاطر . إذ أن الدول ظلت تركز اهتماماتها لعقود طويلة من الزمن على ضمان استقرار الاقتصاد الكلي، وخلق الأسواق المالية السليمة، واعتماد سياسات موجهة لتحقيق النمو واتخاذ تدابير وقائية ضد الكوارث الطبيعية . غير أن الحماية الاجتماعية التي تساند تخفيض المخاطر مرتبطة أساسا بأسواق العمل، أي تهيئة فرص عمل أفضل والتدريب على المهارات ووقف تسريح العمال، فضمان الاستقرار الاقتصادي لا يجب أن يكون على حساب مناصب العمل لأفراد المجتمع .

2. تخفيف حدة المخاطر

ونظرا لكون المخاطر ذات الصلة بالجانب الاقتصادي لا يمكن أن تختفي تماما نظرا لكون الأزمات الاقتصادية تظهر باستمرار، كان على الدولة أن تخفف من حدة المخاطر، مثل : التعويضات للعاطلين عن العمل وتأمين الدخل في الشيخوخة غير أنه ينبغي أن يتخطى الأمر تأمين المعاشات التقاعدية في القطاع الرسمي فقط، وإنما يجب أن تعتمد التعويضات الأكثر أمانا لهم .

3. التغلب على المخاطر

التغلب على المخاطر بعد حدوثها هو المجال الذي للحكومة فيه دور هام في ضمان الحقوق في الأصول المالية والأصول الثابتة، كحسابات التوفير والأراضي، التي يمكن الاستفادة منها في أوقات الطوارئ . غير أنه بالنسبة للفقراء الذين ليس لديهم أية أصول، تعتبر الحكومة الملاذ المعني بتقديم العون لهم لعدم وجود من يقوم بذلك غيرها(17) .

يقول إدواردو دوريان، نائب رئيس البنك الدولي : "في بدايـة هذا القرن الجديد ( القرن الواحد والعشرين )، أخذ العاملون في مجالات التنمية يدركون أنه مع أن البرامج المنفردة يمكن أن تحسّن رفاهية الناس وأن تخفض أعداد الفقراء، هناك ضرورة لوضع نهج أكثر شمولية للقيام بالقفزات اللازمة لتحرير معظم الفقراء في البلدان النامية من براثن الفقر ويعمل العديد من الهيئات المعنية على إعادة النظر في استراتيجياتها أو وضع استراتيجيات لأغراض الحماية الاجتماعية باستعمال أطر شاملة تركّز على المخاطر وإعادة توزيعها على السواء، كإستراتيجية المخاطر الاجتماعية المدرجة في هذه الدراسة" .


الهوامش :



1 ـ محمد المبارك، نظام الإسلام، الحكم والدولة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان 1974، ص88 .

2 ـ الشحات أحمد يوسف، الأزمات المالية في الأسواق الناشئة، مع إشارة خاصة لأزمة جنوب شرق آسيا، دار النيل للطباعة والنشر، جمهورية مصر العربية، 2001، ص2

3 ـ الـبـنـك الـدولـي، تحسين شبكات الأمان ضروري لتحقيق منافع العولمة للفقراء في العالم تقرير جديد يبيّن أن الأشكال الجديدة من الحماية الاجتماعية يمكن أن تزيد سرعة تخفيض أعداد الفقراء، 24 جانفي 2001، media.worldbank.org، ص2 .

4 ـ ضياء مجيد الموسوي، العولمة واقتصاد السوق الحرة، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون الجزائر، الطبعة الثانية 2005، ص 11 .

5 ـ رفيق يونس المصري، أصول الاقتصاد الإسلامي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت 1999، ص236 .

6 ـ سورة الإسراء : الآية 29 .

7 ـ سورة النساء : الآية 36 .

8 ـ ابن حزم، المحلى، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بـيروت لبنان، ( بدون تاريخ )، جزء 6 ص156

ـ إبراهيم أحمد إبراهيم حسين، توزيع الثروة في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، قسم البحوث والدراسات الاقتصادية، جمهورية مصر العربية 1988، ص 115 .

9 ـ البنك الدولي، المرجع السابق، ص2 .

10 ـ أحمد يوسف الشحات، الأزمات المالية في الأسواق الناشـئة، مع إشارة خاصة لأزمة جـنوب شـرق آسيـا، دار النيل للطباعة والنشر، المنصورة، جمهورية مصر العربـية، 2001، ص 46 .



ـ منير إبراهيم هندي، أزمة البورصات العالمية في أكتوبر 1997، الأسباب والنتائج، تحليل اقتصادي وشرعي، سلسلة المنتدى الاقتصادي، المنتدى رقم 3، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، القاهرة 22 نوفمبر 1997 ص35 .

11 ـ تقرير البنك الدولي، مرجع سابق، ص2 .

12 ـ ضياء مجيد الموسوي، اهتزازات في أسس العولمة، ديوان المطبوعات الجامعية، بن عكنون، الجزائر2005، ص9 .

13 ـ ضياء مجيد الموسوي، الحداثة والهيمنة الاقتصادية ومعوقات التنمية، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون، الجزائر 2004، ص29 .

14 ـ ضياء مجيد الموسوي، العولمة واقتصاد السوق الحرة، مرجع سابق، ص11 .

15 ـ البنك الدولي، مرجع سابق، ص4 .

16 ـ أنور عبد الكريم، مرجع سابق، ص40 .

17 ـ البنك الدولي، مرجع سابق، ص 5 .


http://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=5&ved=0CGcQFjAE&url=http%3A%2F%2Fwww.kantakji.com%2Ffiqh%2FFiles%2FEconomics%2F2109.doc&ei=sJDbT4WIBYGt0QW83NXKCg&usg=AFQjCNGP2gqjK13YE9kU6tajZW0Ey6LvWw&sig2=8SCVZ9K22KejXFTERrlt5w

هناك تعليقان (2):