عرفت جميع المجتمعات أشكالا من السلطة السياسية بما وفر لها من خلال هذه السلطة نوعا من الاستخدام المنظم للقهر، حماية للجماعة من الانفراط وتحقيقا للنظام والاستقرار داخلها بعيدا عن الصراعات الفئوية أو الطبقية، فضلا عن الحماية من المخاطر الخارجية، وقد تطورت أشكال هذه السلطة السياسية عبر الزمن وصولا إلى الدولة، التى تعنى فى جوهرها السلطة السياسية المنظمة الخاضعة للقانون، وتتميز الدولة كشكل من أشكال السلطة السياسية عن أشكال السلطة السياسية السابقة بأهدافها والوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف، فضلا عن الاعتراف لها بحدود إقليمية تتمتع داخلها بالسيادة المطلقة، أما أهداف الدولة فهى أساسا حفظ الأمن والاستقرار لأبنائها وإقامة العدل، وتحقيق التقدم الاقتصادى والعدالة الاجتماعية.
ولقد برز مفهوم الدولة الحديث بتوقيع معاهدة وستفاليا عام 1648، حيث ظهرت الدولة الأمة أو الدولة القومية التى تمارس السلطة رأسيا من أعلى إلى أسفل، فى نطاق ترابها الوطنى أى حدودها الإقليمية، وعلى مجموعة من البشر متجانسة نسبيا تسمى الأمة، وهكذا أصبح من الممكن تنمية أسواق وطنية أتاحت إجراء تحسين كبير فى حياة المواطنين فى الدولة المعنية ومع قيام الدولة الأمة تم الانتقال إلى أسواق أقل عددا وأوسع نطاقا من الناحية الجغرافية، وبهذا حدث نوع من أنواع التلافى بين التطور السياسى للدولة الأمة والتطورات الموازية فى الأنشطة الأساسية الأخرى كالنشاط الاقتصادى، فالنفوذ الأفقى للسوق الاقتصادى يخضع للسلطة الرأسية للدولة الأمة، خالقا نوعا من التوازن، إلا أن العولمة كان لها آثارها على هذا الوضع الذى استقر لسنوات طويلة، فمن خلال العولمة يحل تدريجيا النفوذ الأفقى للسوق محل القدرة الرأسية للدولة.
فالعولمة تقلص دور الدولة، من خلال الدمج العملى لمختلف الأنشطة، وهكذا تتحسر السلطة الرأسية للدولة، بينما تزداد مرونة الأجهزة النشطة فى كافة إرجاء العالم، ومنها منشآت ومنظمات غير حكومية وهيئات علمية وغيرها، وبوسع المنشآت المتعدية للحدود أن تختار وتنجز مهام عديدة فى هذا الموقع الجغرافى، أو ذاك وفقا لمنطقها الاقتصادى، وبغض النظر عن أى اعتبارات سياسية.
ولقد أدى هذا إلى إثارة العديد من التساؤلات حول الدولة ووظائفها وكيفية قيامها بهذه الوظائف بالكفاءة والفعالية المطلوبة فى ظل العولمة، وفى هذا التقرير الذي يعنى بتحديد الوظائف الجديدة للدولة فى عصر العولمة سيتم تحديد أهم المتغيرات الجديدة ذات التأثير على الدولة، ثم أهم الوظائف والمهام الجديدة للدولة الناتجة عن هذه المتغيرات مع تحديد المتطلبات اللازمة لقيام الدولة بهذه الوظائف.
أولا - أهم المتغيرات ذات التأثير على الدولة فى عصر العولمة:
تعددت الآراء التى قدمها العلماء والباحثون حول المتغيرات ذات التأثير على الدولة فى عصر العولمة، ويمكن تصنيف هذه الآراء على النحو التالى:
أ- الاتجاه القائل بالتحول من مفهوم الدولة القومية إلى الدولة الشبكية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن العالم يتحول من حالة الدولة القومية صاحبة السيادة على إقليمها وسكانها إلى حالة الشبكات عبر القومية، فالشبكات المالية والتجارية والتكنولوجية والإعلامية والثقافية تحدد الواقع القائم فى العالم، ومن ثم فعلى الدول إن تحاول التكيف مع هذا الواقع الجديد من خلال إعادة الهيكلة الداخلية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وإداريا.
ويستند أنصار هذا الاتجاه إلى أن الفرضية القائلة بأن السياسة بالضرورة سياسة قومية قد تحطمت، فرفاهية المواطن لم تعد تعتمد على أفعال حكومته بقدر ما تعتمد أساسا وأكثر من ذى قبل على أفعال وقرارات يتم التوصل اليها خارج حدود دولته، وبواسطة أبنية ومؤسسات تتخذ قراراتها بطريقة تجميعية، فإدارة الاقتصاد القومى لا تتحدد من خلال الحكومات القومية، وإنما من خلال المؤسسات الخارجية ويستوى فى هذا الدول الغنية والدول الفقيرة، والكثير من الموضوعات السياسية التى كان يعتقد أنها من صميم اختصاصات الحكومات القومية صارت لها اليوم أبعادها الخارجية الهامة والمؤثرة.
ومن ثم فالعولمة قد أحدثت هزة عنيفة للمفهوم التقليدى للدولة بعناصره الثلاثة، فواقعيا لم يعد الإطار المكانى، أى الإقليم خاضعا خضوعا تاما ومطلقا لسيادة الدولة وسلطتها، كما كان الحال من قبل، كما أن العنصر السكانى لم تعد ارتباطاته ومصالحه محصورة فى نطاق إقليم الدولة فحسب، بل امتدت هذه الارتباطات والمصالح امتدادا أفقيا خارج نطاق إقليم الدولة، كما أن السلطة السياسية التى استندت فى ممارسة القوة إلى مفهوم السيادة تواجه إشكالية تأكل السيادة التقليدية، ففى ظل العولمة وآلياتها ومؤسساتها لم تعد السلطة السياسية مطلقة اليد أو صاحبة السلطة المطلقة فى ممارسة بعض مظاهر السيادة التقليدية تفرض الضرائب وتحديد سعر الضريبة الجمركية، كما لم تعد مطلقة اليد فى استخدام العنف والقوة القهرية فى مواجهة مواطنيها.
وكل هذه المتغيرات تفرض بالضرورة وفقا لهذا الاتجاه إحداث تغيير جذرى فى بنية الدولة للتحول إلى الدولة الشبكية التى يمتد تأثيرها خارج نطاق حدودها القومية، ومن ثم فنقطة الاختلاف الرئيسية بين الدولة القومية والدولة الشبكية التى هى فى حيز التشكيل أن الأولى ترتبط بإطار إقليمى محدد تمارس فيه نشاطها، فى حين أن الثانية لا تقوم على إطار اقليمى محدد.
2- الاتجاه القائل بأن العولمة قد أخضعت الدولة: يرى أنصار هذا الاتجاه أن العمليات والأبنية العولمية ستنال بشدة من قدرات الدولة وفعاليتها للقيام بوظائفها، فآليات العولمة حولت الدولة إلى منفذين وأدوات فى أيدى قوى ليس للدول أملى بالتحكم فيها سياسيا، ومن ثم، فبينما تظل مقولات السيادة وتراب الوطن من سمات النظام الدولى، إلا انه قد جرى إعادة تركيبها وموضعتها على مواقع مؤسسية أخرى خارج الدولة و خارج نطاق الوطن.
فالعولمة أدت إلى إعادة توزيع القوى بين الدول والأسواق والمجتمع المدنى، فان كانت الحكومات لم تفقد قدرتها الذاتية بصورة مطلقة على التحكم في عناصر قوتها فى ظل العولمة، إلا أنها وجدت من يشاركها فى القيام بأدوارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وذلك من خلال رجال الأعمال والمنظمات الدولية والجمعيات الأهلية غير الحكومية ووسائل الإعلام وغيرها.
3- الاتجاه القائل بأن العولمة قد أخلت بالتوازن الذى قامت عليه الدولة القومية بين الاقتصاد والسياسة: ويعد الفين توفلر اول من عبر عن هذا الاتجاه فى كتابه تحول السلطة، Power Shift الذى صدر فى مطلع التسعينيات من القرن العشرين وأستند فى تحليله إلى أن أى نظام سياسى سواء كان ديموقراطيا أم غير ديموقراطى يتطلب درجة من التوافق بين الطريقة التى ينتج بها الشعب ثروته والطريقة التى يحكم بها نفسه، لأنه إذا حدث تنافر بين الجانبين فسينتهى الأمر بأن يحطم أحدهما الآخر، ويستند فى ذلك إلى الخبرة التاريخية، إذ يذكر أنه على امتداد التاريخ عندما اخترعت البشرية نظاما كليا لإنتاج الثروة فإنها اخترعت أيضا أشكالا للحكم توافق معه، والدولة القومية نموذج لهذا التوافق الذى حدث فى عهد الثورة الصناعية، ومن ثم فإن صح أن هناك نظاما اقتصاديا يقوم على المعرفة ليحل محل النظام الإنتاجى المصنعى، فعلينا أن نتوقع صراعا تاريخيا جديدا لإعادة إنتاج مؤسساتنا السياسية كى تتوافق مع النظام الاقتصادى الجديد.
وقد ركز التقرير السنوى عن التنمية عام 1997 الذى أصدره البنك الدولى بعنوان الدولة فى عالم متغير، على كيفية تحقيق التوافق بين الدولة والمتغيرات الجديدة الناتجة عن العولمة، مشيرا إلى ضرورة ابتكار نماذج تشترك فيها الدولة مع الأسواق والمجتمع المدنى للتعامل مع الواقع الجديد، ويحاول التقرير تقديم نموذج متوازن للعلاقة بين الجانبين السياسى والاقتصادى فى هذا الصدد.
ويرصد "بيير بتيجرو" ظاهرة هامة فى صدد العلاقة بين المجال السياسى والمحال الاقتصادى فى ظل العولمة إذ يقول، إذا كان الانتقال من القومى إلى الدولى إلى العولمى يعود إلى حد كبير الى التطور التكنولوجى، فإن هذا التطور يتيح بدوره فهم الاختلافات التى طرأت على المجالات والأزمنة التى لم تعد واحدة بالنسبة للمجالين الاقتصادى والسياسى، فبينما تتجه الساحات الاقتصادية نحو الاندماج معا، تميل الساحات السياسية إلى التجزؤ، وعندئذ قد يدعم هذا التجزؤ السياسى النفوذ الاقتصادى بقدر متزايد، والواقع ان تباعد الترافق بين المجالين الاقتصادى والسياسى يلحق الأضرار بالسلطة السياسية للدول.
وباختصار تتجاهل العولمة الحدود السياسية وتدمج معا الساحات الاقتصادية، وهكذا تنشأ على هامش نطاقات مسئولية الدول قوة جديدة متنفذة لا اسم لها ولا وطن ولكنها رهيبة.
ويؤكد "يتجرو" على أهمية تحقيق التوازن بين الجانبين السياسى والاقتصادى وذلك لعلاج المشكلات الناتجة عن العولمة الاقتصادية، خاصة ما يتعلق باستبعاد وتهميش قطاعات اجتماعية كبيرة، ويرى أن هذه الإشكالية تفرض إعادة تعريف النشاط السياسى نفسه، ويتعين على الجانب السياسى أن يتوصل إلى وسيلة ليعيد الاقتصاد إلى غايته الإنسانية، ولن تحقق العولمة ما يتوجب عليها أداؤه إلا إذا قبلت أن تفرض عليها السلطة السياسية التى أعيد ابتكارها توجها يحترم مجموع الأفراد، فما حققته السياسة فى الماضى من أجل الاقتصاد والأفراد من خلال خلق أسواق قومية يجب أن تحققه من جديد فى الوقت الراهن بأن تجعل من نفسها الحارس اليقظ والمثابر للأهداف الإنسانية فى النشاط الاقتصادى.
من خلال العرض المتقدم يمكن القول بأن المتغيرات ذات التأثير على الدولة فى عصر العولمة قد بلورت رؤى ثلاث للدولة، الأولى تدور حول ضرورة التحول من الدولة القومية إلى الدولة الشبكية، وذلك كى يتواءم المجال السياسى مع المجالين الاقتصادى والتكنولوجى، الثانية تدور حول ضرورة التوصل إلى سبل لعلاج الضعف الذى تعرضت له الدولة نتيجة العولمة، والثالثة تركز على أن التطورات التى شهدها العالم قد أدت إلى إحداث خلل فى التوازن الذى قامت عليه الدولة القومية بين الاقتصاد والسياسة، وأن إعادة هذا التوازن أمر ضرورى لكى تحقق العولمة أهدافها، وأن هذا التوازن يتم من خلال إعادة ابتكار الدولة، بما يتواءم مع المستجدات، وإن كانت طبيعة هذه الدولة المبتكرة إن صح التعبير تختلف عن مفهوم الدولة الشبكية، إذ يركز الاتجاه الثالث على الجانب الأخلاقى والإنسانى لهذه الدولة المطلوب ابتكارها.
ثانيا: فى المهام والوظائف الجديدة للدولة فى عصر العولمة
لاشك فى أن المتغيرات الناتجة عن العولمة قد أفرزت واقعا سياسيا جديدا داخليا وإقليميا وعالميا، هذا الواقع الجديد له قضاياه ومشكلاته الخاصة. وبالتالى يحتاج إلى أساليب مبتكرة للتعامل معه خاصة وأنه يتسم بالتغير الجذرى السريع والمستمر، الأمر الذى يؤثر على وظائف الدولة فى هذا العصر.
والجديد فى مجال وظائف الدولة، يتمثل فى تغير محتوى هذه الوظائف وفى نطاقها، فنطاق قيام الدولة بوظائفها قد اختلف أفقيا ورأسيا، أفقيا بمعنى إمكانية امتداده خارج إقليم الدولة، ورأسيا بمعنى انه صار يمتد من القمة إلى الوحدات المحلية الصغيرة، هذا بالإضافة إلى ضرورة تغيير آليات القيام بهذه الوظائف. من ناحية أخرى برزت وازدادت الأهمية النسبية لبعض الوظائف كالوظيفة الاقتصادية للدولة تجاه ازدياد أهمية العوامل الاقتصادية، من الواقع المعاصر، والوظيفة الاتصالية للدولة التى صارت لها أبعادها الهامة الجديدة.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن للتطور التكنولوجى الهائل فى هذا العصر آثارا هامة على وظائف الدولة، خاصة فيما يتعلق بأساليب القيام بتنفيذ هذه الوظائف فقد أتاح هذا التطور التكنولوجى وسائل وأساليب جديدة للدولة تستطيع من خلالها القيام بوظائفها بجودة أعلى وتكلفة اقل، وبالسرعة الملائمة لعملية التغير فى هذا العصر.
وفى نطاق دراسة وظائف الدولة فى عصر العولمة سيتم استعرض هذه الوظائف فى نطاق مجموعتين أساسيتين هما:
1- مجموعة الوظائف المرتبطة بطبيعة الدور الذى تقوم به الدولة فى هذا العصر، وتشمل وظائف الدولة بوصفها صاحبة السيادة والسلطان، ووظائفها كإطار نظامى، ووظائفها كفاعل دولى.
2- مجموعة الوظائف النوعية للدولة كالوظيفة الاقتصادية، والاتصالية والأمنية والاجتماعية وغيرها.
ولا شك فى أن هناك تداخلا بين المجموعتين، ولكن الباحث رأى أن تناول هذه الوظائف على هذين المستويين يمكن أن يفتح آفاقا جديدة للتعرف على وظائف الدولة فى عصر العولمة.
مجموعة الوظائف المرتبطة بطبيعة الدور الذى تقوم به الدولة فى عصر العولمة
تقوم الدولة بعدة أدوار فى عصر العولمة، فهناك دور للدولة بوصفها لازالت صاحبة السيادة والسلطان، ودور للدولة بوصفها تمثل إطارا نظاميا للتفاعلات السياسية فى المجتمع، ودور للدولة كفاعل دولى، وفى نطاق كل دور من هذه الأدوار تقوم الدولة بعدة وظائف وفيما يلى عرض لتلك الوظائف عند كل مستوى من هذه المستويات.
أ- وظائف الدولة بوصفها صاحبة السيادة والسلطان.
بالرغم من التغير الواضح الذى طرأ على مفهوم السيادة الكلاسيكى وعلى احتكار الدولة للسلطان المطلق فى نطاق إقليمها، إلا أن هذا لم يؤد إلى إلغاء دور الدولة كصاحبة للسيادة والسلطان، بل إن الملاحظ أن الحالات التى تفككت فيها الدولة وتلاشت سلطتها قد أنتجت نوعا جديدا من السلطة كما هو الحال فى الصومال على سبيل المثال، وكذلك فى الدول التى تشهد حروبا أهلية، ظهر نوع من أنواع السلطة فى المناطق البعيدة عن سلطان الدولة.
ومن ثم فالتحول الذى حدث يتمثل فى التحول من السيادة المطلقة والسلطان المطلق إلى السيادة النسبية والسلطان النسبى، ومن ثم فالدولة تمارس وظائفها فى بعض المجالات بوصفها صاحبة السيادة والسلطان المطلق، وفى مجالات آخرى تمارس هذه الوظائف بوصفها تتمتع بالسيادة والسلطان النسبى، فى الحالة الأولى تكون مطلقة اليد فى التصرف، وفى الحالة الثانية تكون مقيدة بالعديد من القيود خارج نطاق تحكمها.
فالحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلى وحماية الملكية الخاصة والعامة، تدخل فى نطاق الوظائف التى تتمتع فيها الدولة بالسلطان والسيادة المطلقة أو شبه المطلقة، فى حين أن الوظائف التى تدخل فى نطاق فرض الضرائب والجمارك على سبيل المثال فانها تواجه بالعديد من القيود الخارجة عن نطاق سيطرتها وتحكمها.
ب- وظائف الدولة بوصفها إطارا نظاميا.
يركز الإطار النظامى للدولة على تنظيم النطاق السياسى، فالدولة كإطار نظام تقوم بتنظيم علاقات القوة فى المجتمع، استنادا إلى السلطة المنظمة الخاضعة للقانون والتى تعتمد فى أدائها لوظائفها على مجموعة من المؤسسات السياسية النابعة من المؤسسة السياسية الأم وهى الدولة، هذا الإطار النظامى يعبر عن واقع سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى معين، تغير هذا الواقع بفعل العولمة، يفرض تطوير هذا الإطار النظامى بما يتلاءم مع المستجدات ومن هنا تبرز الوظيفة التطويرية للدولة فى ظل العولمة، وتشمل هذه الوظيفة تطوير مؤسسة الدولة ذاتها. والمؤسسات السياسية التابعة لها، هيكليا ووظيفيا وفكريا، هذا بالإضافة إلى ضرورة إعادة تحديد الحيز السياسى الرسمى والحيز السياسى المدنى، وإعادة تنظيم العلاقة فيما بينهما بما يكفل تحقيق التوافق والتكامل بينهما، بعبارة أخرى أصبح من الضرورى إعادة تنظيم العلاقة بين السياسة والمجتمع، فإن كانت فترة الحرب الباردة قد شهدت اتساعا ملحوظا للحيز السياسى الرسمى بحكم الواقع القائم آنذاك، فإن المرحلة الحالية تشهد اتساعا ملحوظا لنطاق المجتمع المدنى وانحسارا نسبيا للنطاق السياسى الرسمى، والأمر يتطلب الوصول إلى صيغة متوازنة بين النطاقين تكفل تحقيق التكامل والتوافق والانسجام فيما بينهما، بما يؤدى إلى زيادة كفاءة وفعالية الإدارة السياسية للمجتمع.
جـ - الدولة كفاعل دولى
فى ظل العولمة لم تعد الدولة هى الفاعل الدولى الوحيد، فثمة فاعلان دوليان آخران، ربما يكونا أكثر تأثيرا وفعالية فى العديد من المجالات، فهناك الشركات العملاقة متعددة القوميات بثقلها المالى والاقتصادى والسياسى، وهناك المؤسسات الدولية التى تلعب دورا هاما فى عالم السياسة كمجلس الأمن ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد المالى، والبنك الدولى، وكافة المنظمات الدولية الأخرى المتخصصة فى مجالات عديدة، كما أن هناك المنظمات الأهلية غير الحكومية ذات الطابع العولمى والكونى، كمنظمة الشفافية، وحقوق الإنسان وغيرها، هذا بالإضافة إلى وجود بعض الشخصيات ذات الثقل المؤثر بفعل قوتهم المالية والعلمية، والفكرية وقدرتهم على التأثير فى الأحداث السياسية على المستوى الكونى، هذا الوضع الجديد لن يؤدى الى اختفاء دور الدولة كفاعل دولى، لأن الدولة كفاعل دولى هى مناط التحمل بالالتزامات والمسئوليات، فى حين أن هذه القوى الأخرى لا ترغب بل تحاول التهرب من التحمل بمثل هذه الالتزامات.
وفى ظل وضع كهذا تبرز وظيفة هامة للدولة نطلق عليها الوظيفة التنظيمية للدولة وتدور حول قيامها بتنظيم عملية التحمل بالالتزامات والمسئوليات، بما يتلاءم والحفاظ على كيانها الذاتى ويوفر لها القدرة على الوفاء بهذه الالتزامات تجنبا لأية ضغوط دولية أو خارجية.
هذا بالإضافة إلى ضرورة القيام بتنظيم علاقات الدولة بالفاعلين الآخرين من غير الدول، بما يؤدى إلى زيادة قدرتها، وكفاءتها فى التعامل مع هؤلاء الفاعلين، وبما يساعدها على زيادة قدرتها لاستيعاب المتغيرات النابعة من هؤلاء الفاعلين والمؤثرة عليها.
مجموعة الوظائف النوعية للدولة فى عصر العولمة
إذا ما رجعنا إلى الأدبيات المعاصرة التى عنيت بدراسة الدولة ووظائفها الجديدة فى عصر العولمة، سنلحظ اهتماما وتركيزا واضحا على مجموعة الوظائف الاقتصادية للدولة، وربما يرجع هذا إلى ازدياد أهمية العوامل الاقتصادية فى الواقع المعاصر، والتغيرات الهامة التى طرأت على الأنشطة الاقتصادية، والتحول الذى يشهده العالم من الاقتصاد المصنعى إلى اقتصاد المعرفة، هذا بالإضافة إلى أن للعوامل الاقتصادية تأثيرها المباشر على المواطنين وعلى المجتمع.
وبالرغم من هذا التركيز على مجموعة الوظائف الاقتصادية للدولة، إلا أن الباحث يرى ان ثمة مجموعات آخرى من الوظائف النوعية للدولة قد اكتسبت أهمية نسبية خاصة فى الواقع المعاصر، بالإضافة إلى حدوث تحول فى مضمون ومحتوى بعض الوظائف الأخرى، وفيما يلي عرضا لأهم هذه الوظائف النوعية الجديدة والتى تغير محتواها وازدادت أهميتها.
أ- مجموعة الوظائف الاقتصادية للدولة.
خصص البنك الدولى تقريره السنوى عن التنمية فى العالم عام 1997 لموضوع الدولة فى عالم متغير، وحدد التقرير الوظائف الاقتصادية للدولة على النحو التالى:
1- إيجاد قاعدة أساسية من القانون وحماية حقوق الملكية.
2- توفير بيئة حميدة للسياسة العامة تتسم بالشفافية والمرونة وعدم الفساد.
3- الاستثمار في البشر والبنية الأساسية.
4- حماية المستضعفين.
5- حماية البيئة الطبيعية.
ويمكن القول بأن معظم الأدبيات التى عنيت بالوظائف الاقتصادية للدولة قد اتفقت حول ضرورة قيام الدولة بالوظائف التالية فى المجال الاقتصادى:
1- وضع القواعد القانونية المنظمة للنشاط الاقتصادى، وتوفير الضمانات القانونية والإدارية اللازمة لقيام القطاع الخاص بدوره فى النشاط الاقتصادى مع متابعته ووضع الضوابط اللازمة لامتثاله للقواعد القانونية المنظمة لنشاطه، ومن ثم فوضع القواعد القانونية وحده لا يكفى، وانما لابد وأن يرتبط به القيام بمهمة المتابعة ووظيفة الضبط الملزم للامتثال لهذه القواعد.
2- توفير الظروف الملائمة للمنافسة ومنع الاحتكار، وذلك من خلال تفعيل مبدأ الشافية فى المعاملات والمعلومات، والسعى إلى مقاومة الفساد وصولا إلى مستوى تقل فيه درجة الفساد إلى اقل درجة ممكنة.
3- وضع منظومة من السياسات المالية والنقدية المرنة، القادرة على تمكين الدولة من إدارة النشاط الاقتصادى وتوجيهه، بما يحقق الأهداف المطلوبة للدولة ككل، ويعالج أى خلل فى التوجهات الاقتصادية التى يمكن أن تحدث نتيجة لنظام اقتصاد السوق.
4- علاج الخلل الذى قد يحدث فى توزيع الدخل، من خلال منظومة من السياسات الاجتماعية المتكاملة التى تتعامل مع الآثار الاجتماعية غير الحميدة المحتملة الناتجة عن ذلك.
5- إدارة الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية المحتملة من خلال وضع منظومة من السيناريوهات المحتملة وتطويرها باستمرار، وإعداد فرق لإدارة الأزمات المتوقعة والمحتملة.
ب- مجموعة الوظائف الاتصالية للدولة فى عصر العولمة.
ازدادت أهمية الوظائف الاتصالية للدولة فى عصر العولمة، خاصة مع بروز بعض الجوانب الاجتماعية السلبية للعولمة، كازدياد عدد المستبعدين من دائرة العمل والنشاط الاقتصادى، الأمر الذى أدى إلى بروز الجانب اللا إنسانى للعولمة، هذا بالإضافة إلى التطور الهائل فى تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والذى أدى إلى تغير العديد من المفاهيم المرتبطة بالوظيفة الاتصالية للدولة.
وتوضح الأدبيات التى عنيت بتحليل الوظائف الاتصالية للدولة بعض القضايا والاتجاهات الهامة بالنسبة لهذه الوظائف أهمها ما يلى:
1- أوضحت بعض الدراسات إمكانية تركيز الوظيفة الاتصالية للدولة نحو إدارة البطالة الهيكلية والاستبعاد الاجتماعى الملازم للعولمة الاقتصادية، ومن ثم تتمثل الوظيفة الاتصالية للدولة وفقا لهذه الدراسات نحو القيام ببث كم هائل من المنتجات الإعلامية والاتصالية ذات المضمون العولمى، مستفيدا من الإمكانات التكنولوجية الهائلة فى هذا المجال من أجل خلق شعور لدى المستبعدين اجتماعيا واقتصاديا بأنهم يعيشون فى واقع مواز للواقع الحقيقى، بعبارة أوضح بيع الوهم للمستبعدين من خلال الصورة والكلمة وتغيبهم عن واقعهم الحقيقى بكل ما فيه من سلبيات، ويرى بعض المحللين ان هذا يفسر حجم الاستثمارات الضخمة فى هذا المجال، وقيام المؤسسات الضخمة المتخصصة والقادرة على استخدام شتى أساليب التكنولوجيا الحديثة فى تقديم منتجات اتصالية يتم بثها عبر وسائل الإعلام المختلفة.
2- اتجهت دراسات أخرى إلى التنبيه على أن آليات نظام السوق لا تتلاءم مع كافة الجوانب الانسانية، وأن المبالغة فى تفعيلي قيم نظام السوق التى تجعل كل شئ قابلا للبيع والشراء على المستوى الداخلى والمستوى الكونى فى عصر العولمة، من شأنه أن يهدد القيم والمبادئ الإنسانية، ومن ثم على الدولة أن تقوم بوظيفتها الاتصالية فى مجال بلورة القيم الإنسانية اللازمة للجم جماح النشاط الاقتصادى، وذلك من خلال عملية التنشئة التى تساعد على خلق الوعى الأخلاقى لدى كل أبناء المجتمع، بما يقلل من الأنانية والنزعة اللاإنسانية للعولمة.
3- أوضحت دراسات أخرى انه فى ظل ثورة الاتصال والمعلومات يصعب على أى دولة حجب المعلومات عن مواطنيها، الأمر الذى يتطلب التركيز على تقديم المعلومات أيا كانت الى المواطنين، مما يدعم من مصداقية الدولة لدى مواطنيها، ويقوى من ارتباطهم بها.
4- أشارت دراسات أخرى إلى أن الوظيفة الاتصالية للدولة فى عصر العولمة تتمثل فى وضع البنية الأساسية لمجتمع المعلومات ووضع القواعد والنظم القانونية التى تيسر انتقال وتداول وإنتاج المعلومات فى المجتمع، بما يوفر التحول السلمى غير العنيف إلى مجتمع المعلومات الذى يتسم بخصائص خاصة.
5- اهتمت دراسات آخرى بأهمية الوظيفة الاتصالية من حيث أنها الإدارة القادرة على إدارة التعددية الثقافية فى المجتمع، فالتعددية الثقافية تعنى وجود اختلافات بين العناصر المكونة لمجتمع ما، وإحياء التعددية الثقافية هي إحدى الظواهر المصاحبة للعولمة، والتعامل مع هذه الظاهرة يتطلب تطوير الوظيفة الاتصالية للدولة بما يتواءم معها، فلم يعد الكل فى واحد كما كان الأمر من قبل، وإنما صار هذا الكل مجزءا، وليس الهدف هو الدمج القسري لهذه الأجزاء من خلال الوظيفة الاتصالية، وإنما تحقيق أو خلق رابطة التكامل فيما بين هذه الأجزاء بما يحافظ على التوازن بين ما هو مشترك وما هو متميز لكل جزء من هذه الأجزاء.
6- وتقدم دراسات أخرى تحليلات أمبريقية عن الوظيفة الاتصالية للدولة، من خلال تحقيق التكامل من الأداء بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى، وتشير دراسات أخرى إلى أن الوظيفة الاتصالية للدولة فى عصر العولمة تتمثل فى تحقيق الريط والتكامل بين الدائرة الوطنية والإقليمية والعالمية فى كافة المجالات.
وهكذا يتسع نطاق مجموعة الوظائف الاتصالية للدولة فى عصر المعلومات أفقيا ورأسيا، وتتنوع فى ذات الوقت توجهات وأهداف هذه الوظائف، وتتنوع كذلك الأساليب والأدوات اللازمة للقيام بهذه الوظائف.
جـ - مجموعة الوظائف الاجتماعية للدولة فى عصر العولمة.
تمثل الظواهر الناتجة عن العولمة فى أبعادها الاجتماعية تحديا واضحا للوظائف الاجتماعية التقليدية للدولة، فدولة الرفاهية والاجتماعية التى برزت فى عصر الثورة الصناعية، لتعالج الآثار الاجتماعية السلبية لذلك العصر، لم تعد قادرة على الاستمرار فى عصر العولمة. لم تعد معظم الدول قادرة على توفير الموارد اللازمة لتمويل الأنشطة الاجتماعية لدولة الرفاهية الاجتماعية، كما كان الأمر من قبل.
فإعانة البطالة التى تقدمها الدولة للمتعطلين عن العمل لم تعد كافية للتعامل مع مشكلة البطالة، حيث أن مدة التعطل عن العمل لا يمكن التنبؤ بها، هذا بالإضافة إلى أن طبيعة المشكلة قد اختلفت فى عصر العولمة، حيث تحولت إلى بطالة هيكلية، بمعنى أن النظام الاقتصادى الجديد يحمل فى طياته نسبة كبيرة من المتعطلين الذين لا يمكن توفير أعمال لهم لأسباب مختلفة، ومن ثم فعلاج المشكلة فى ظل هذا النظام لا يعنى القضاء على مشكلة البطالة، وإنما يعنى التكيف مع هذه المشكلة بآليات ووسائل جديدة، منها الاهتمام بتوفير فرص عمل مؤقتة، توجيه العمالة نحو المشروعات الصغيرة، توفير موارد لتمويل الأنشطة البسيطة فيما عرف ببنوك الفقراء. وهكذا، لم تعد إعانة البطالة هى الحل، وانما ابتكار وسائل جديدة لخلق فرص عمل ولو مؤقتة أو فردية، أو ابتكار أنواع جديدة من الأعمال التى تستوعب أعدادا صغيرة من العمالة، أو إعادة تدريب وتأهيل العمالة بما يتناسب والمهارات المطلوبة للأعمال الجديدة والمهن الجديدة الناتجة عن التطور التكنولوجى فى شتى المجالات.
من ناحية أخرى بدأت نظم التأمينات الاجتماعية والمعاشات تواجه العديد من المشكلات الناتجة عن انخفاض سن التقاعد، وارتفاع متوسط عمر المستفيدين من هذء النظم، الأمر الذى يفرض المزيد من الأعباء المالية على هذه النظم، ومن ثم لم يعد المفهوم التقليدى للتأمينات الاجتماعية والمعاشات قادرا على التعامل مع الواقع الجديد، ومن هنا تبرز ضرورة القيام بإيجاد نظم ووسائل جديدة للتعامل مع هذه القضية.
وفى مجال إدارة الصراع الإجتماعى فى المجتمع بطريقة سلمية، لم تعد المسألة بالبساطة السابقة، بحيث يمكن إدارة الصراع الإجتماعى من خلال تقديم الدعم الحكومى المباشر وغير المباشر للفئات الضعيفة أو المضارة، حيث أن العلاقات الاجتماعية الصراعية لم تعد محددة كما كان الأمر من قبل، فإن كان الصراع فى المرحلة السابقة مركزا بين الأجراء وأصحاب رؤوس الأموال، فالواقع الحالى يشهد صراعا على مستويات عديدة، ليس أهمها أو أبرزها الصراع بين الأجراء وأصحاب رؤوس الأموال، فثمة صراع بين العمال بين أصحاب المهارات الجديدة المطلوبة فى سوق العمل وأصحاب المهارات التقليدية ومحدودى المهارة، وصراع بين أصحاب الأعمال لا يقل حدة، بين كبار رجال الأعمال ومتوسطى رجال الأعمال وصغار رجال الأعمال، وثمة صراع بين المنتجين والمستهلكين، ومن ثم فإدارة الصراع الإجتماعى السلمى كوظيفة من الوظائف الاجتماعية للدولة صارت مهمة بالغة التعقيد والتشابك.
ومن الوظائف الاجتماعية الهامة للدولة، وظيفة تحقيق العدالة الاجتماعية، هذه الوظيفة تغير محتواها فلم تعد قاصرة على علاج الخلل في توزيع الدخل فحسب، وإنما اتسعت لتشمل تحقيق العدالة فى التعليم بمعنى توفير الفرص المتكافئة أمام المواطنين للحصول على العلم والمعرفة الحديثة المعاصرة، وكذلك الحال فى مجال الصحة والغذاء ومياه الشرب النقية والإسكان والصرف الصحى وغيرها.
كذلك برزت مشكلات الاستبعاد الإجتماعى والتهميش بوصفها مشكلات اجتماعية حادة تهدد الاستقرار والاجتماعى، وهو ما يدخل علاج هذه المشكلات فى نطاق الوظائف الاجتماعية للدولة.
من خلال هذا العرض يمكن تحديد أهم الوظائف الاجتماعية للدولة فى عصر العولمة على النحو التالى:
1- إدارة الصراع الإجتماعى بأبعاده ومستوياته الجديدة المتداخلة والمعقدة وبما يؤدى الى تقليل حدة العنف الإجتماعى لأقل درجة ممكنة. وهو ما يحقق الاستقرار والاجتماعى المنشود أو الدرجة الملائمة من هذا الاستقرار، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص وقوى المجتمع المدنى غير الحكومية.
2- الاستثمار فى مجال تنمية الموارد البشرية فى التعليم والتدريب، حيث أصبح التعليم مدخلا لتحقيق العدالة الاجتماعية بمفهومها الجديد، لأن محور الانقسام والاجتماعى قد حار بين من يعلمون ويعرفون ومن لا يعلمون ولا يعرفون، ومن ثم فقيام الدولة بتوفير الفرص المتكافئة للراغبين فى التعليم والقادرين عليه، واكتساب المعرفة والمهارات اللازمة لعصر العولمة، يمثل جوهر تحقيق العدالة الاجتماعية فى هذا العصر، مع الأخذ فى الاعتبار أن عملية التعلم لم تعد قاصرة على مرحلة سنية معينة من حياة الإنسان، بل صارت عملية مستمرة على مدى حياته.
3- تطوير نظم التأمينات الاجتماعية والمعاشات بما يتلاءم والظروف الجديدة وابتكار الوسائل الملائمة لإدارة واستثمار أموال التأمينات الاجتماعية، بما يؤدى إلى توفير موارد جديدة لتمويل نظم التأمينات الاجتماعية.
4- تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين فى المجالات المختلفة من خلال آليات ووسائل جديدة تقوم على أساس الشراكة بين الدولة والمواطنين وقوى المجتمع المدنى، ومن خلال الأسلوب اللامركزى فى تحديد الاحتياجات وتوفير الوسائل والسبل الملائمة لتلبية هذه الاحتياجات، وهو ما يعنى إحياء دور المجتمع المدنى فى مجال تقديم هذه الخدمات.
5- علاج مشكلة الاستبعاد والتهميش الإجتماعى بوسائل جديدة ومبتكرة، وذلك من أجل تجنب حدوث العنف والاجتماعى أو التقليل من آثاره السلبية إن حدث.
6- الاهتمام بمشكلة الفقر من خلال توفير آليات نابعة من خبرة المجتمع فى تحقيق التكافل الاجتماعى، والتحول من أسلوب تقديم الإعانة إلى أسلوب المساعدة على الخروج من دائرة الفقر.
7- علاج الجوانب الاجتماعية لمشكلة البطالة، من خلال التعامل مع المجتمعات المحلية وتحديد طبيعة المشكلة فى كل مجتمع محلى، والبحث عن أساليب نابعة من هذه المجتمعات المحلية لعلاج مشكلة البطالة بها.
إن مجموعة الوظائف الاجتماعية بالمفهوم المتقدم تعد وظائف ذات مدلول سياسى هام، لأنها تحقق الربط والتواصل الرأسى بين قمة المجتمع السياسى وقواعده، ومن ثم فهى تلعب دورا هاما فى تحقيق التماسك فى نطاق المجتمع.
د- الوظائف الأمنية الجديدة للدولة فى عصر العولمة.
لاشك فى أن تحقيق الأمن الداخلى والحفاظ على الأمن الخارجى للدولة من الوظائف التقليدية للدولة، إلا أن الجديد فى هذا المجال يتمثل فى القضايا والإشكاليات الأمنية الجديدة التى تواجه الدولة فى عصر العولمة، الأمر الذى يفرض تطوير مفهوم الوظيفة الأمنية للدولة، وتحديث أساليب أداة هذه الوظيفة.
وفى هذا المجال، يمكن الإشارة إلى بعض القضايا الجديدة، مثل قضية التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية للدول لاعتبارات إنسانية، وهو ما يحمل فى بعض الحالات تهديدا مباشرا لأمن الدولة، الوظيفة الأمنية فى هذا الصدد تتمثل فى تجنب حدوث أى حالات تبرر أو تفتح الباب أمام مثل هذا التدخل، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال الالتزام بتطبيق القانون بموضوعية وشفافية على جميع المواطنين دون تمييز، وتوفير سلة قضائية منضبطة.
- مقاومة التطرف والإرهاب، حيث أن ظاهرة التطرف والإرهاب من الظواهر الخطيرة التى تهدد الأمن، وعلاج هذه الظاهرة لابد وأن يجمع بين الأساليب الأمنية والنفسية والاجتماعية، فالاعتماد على القوة وحده لا يكفى للتعامل مع هذه القضية.
- التعرف على أنواع الجرائم الجديدة التى تهدد الأمن كالجرائم الاقتصادية ومنها غسيل الأموال، المضاربة على العملة الوطنية، التلاعب فى البورصة، تهريب الأموال إلى الخارج، الفساد الادارى ووضع مخطط علمى وعملى ملائم للتعامل معها، حيث أن الآثار الناتجة عن مثل هذه الجرائم على أمن الدولة لا تقل عن التهديدات الخارجية، ويدخل فى هذا الشأن الجرائم الممكن حدوثها من خلال التجارة الإليكترونية، والجريمة الدولية وتجارة المخدرات، ودفن النفايات النووية والكيمائية والبيولوجية والتقاوى الزراعية المهندسة وراثيا بما يضر بصحة الإنسان.
وهكذا نجد أن مجالات عمل الوظيفة الأمنية للدولة قد اتسعت وتعقدت بصورة غير مسبوقة، حيث أن مثل هذه الجرائم تهدد الأمن القومى للدولة من زوايا مختلفة.
وفيما يتعلق بمفهوم الأمن الخارجى والذى يدور حول الحفاظ على سلامة إقليم الدولة برا وبحرا وجوا، ومنع تعرضها للعدوان الخارجى، وتوفير القدرة اللازمة للتصدى للعدوان الخارجى فى حالة حدوثه، هذا بالإضافة إلى الدفاع عن مصالح مواطنى الدولة فى الخارج، هذا المفهوم للأمن الخارجى لم يعد قاصرا على هذه الجوانب التقليدية، فاختراق إقليم الدولة لم يعد يتم بالوسائل العسكرية المباشرة وإنما يتم بوسائل تكنولوجية متطورة من خلال الأقمار الصناعية وغيرها من وسائل جمع المعلومات الحديثة، ويتم كذلك من خلال ما يمكن ان نطلق عليه الأساليب الذكية التى تدور حول تحليل البيانات الإستراتيجية للدولة والتعرف على كيفية إدراك صانع القرار السياسى للواقع السياسى الذى يعمل به داخليا واقليميا وعالميا، ومن هنا فإن تحقيق الأمن القومى على هذا المستوى لم يعد يتم من خلال الأساليب العسكرية وحدها، وإنما من خلال أساليب جديدة تعتمد على العلم والمعرفة والقدرة على التحليل والتخيل.
من ناحية أخرى فقد نتجت عن العولمة تهديدات جديدة للأمن القومى عند هذا المستوى، فبفعل الاعتماد المتبادل بين دول العالم فإن ما يقع فى هذه الدول يمكن أن يكون له آثاره على أمن الدول الأخرى، فتسرب الإشعاعات من مفاعل نووى فى دولة مجاورة أو قريبة يمثل تهديدا للأمن القومى للدولة، وحدوث صراع داخلى أو إقليمى فى منطقة ما يمكن ان تكون له آثاره السلبية على أمن دولة أخرى، فتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين من شأنه أن يخلق مشكلات أمنية للدولة التى يصل إليها هؤلاء المهاجرون، بل قد يؤدى إلى تورطها فى الصراع الدائر فى الدولة أو المنطقة المصدرة لهؤلاء اللاجئين.
هذا بالإضافة إلى أن مهمة الدفاع عن مصالح مواطنى الدولة فى الخارج، أصبحت مهمة بالغة التعقيد فى ظل اتفاقية التجارة العالمية الحرة ومؤسساتها المختلفة، فقضايا مكافحة الإغراق وحماية الملكية الفكرية، وتحقيق الأمن البيئى والاجتماعى، كلها أمور مستحدثة تدخل فى نطاق الوظيفة الأمنية للدولة فى عصر العولمة.
متطلبات قيام الدولة بوظائفها الجديدة فى عصر العولمة
لاشك فى أن هناك تغيرا قد حدث فى وظائف الدولة فى هذا العصر وقد تم تناول هذه الوظائف الجديدة للدولة، ومفهوم الوظائف الجديدة الذى استخدمناه مفهوم واسعة فهو لا يتوقف على بروز مهام جديدة لم تكن معروفة من قبل وإنما يشمل الوظائف التي يتغير مفهومها، أو التى ازدادت أهميتها النسبية إضافة إلى الجانب المتعلق بالآليات الجديدة لانجاز بعض هذه الوظائف.
والواقع أن التطور التكنولوجى وان كان قد خلق إشكاليات وقضايا جديدة للدولة المعاصرة، إلا أنه وفر العديد من الآليات التى يمكن من خلالها أن تقوم بوظائفها، ومن هنا ظهر مفهوم الحكومة الاليكترونية والسياسة من خلال الانترنيت، وغيرها من المفاهيم المستحدثة التى لازالت فى مرحلة التكوين والتشكيل، ومن ثم فأحد المتطلبات الأساسية لقيام الدولة بوظائفها الجديدة يتمثل فى ضرورة توفير البنية الأساسية اللازمة لاستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة فى المجال السياسى وفى شتى المجالات الأخرى فى المجتمع، و من ثم اهتمت الدول الثمانى الصناعية فى قمتها التى عقدت فى اليابان عام 2000 بضرورة تقديم الدعم الفنى للدول النامية، من أجل توفير هذه البنية الأساسية للتكنولوجيا الحديثة، وذلك من أجل إتاحة الفرصة للدول النامية لتطوير نفسها بما يتواءم والمتسجدات والمتغيرات الجديدة.
وبالرغم من أهمية الإدارة التكنولوجية لقيام الدولة بوظائفها الجديدة إلا أن ثمة كتابات جديدة بدأت تتحدث عن أهمية الجانب الأخلاقى الذى يتيح للدولة إمكانية القيام بهذه الوظائف والتعامل بالكفاءة والفعالية المطلوبة مع عصر العولمة، وفى هذا الإطار أصدر فرانسيس فوكوياما كتابا هاما بعنوان الثقة Trust، والفكرة المحورية التى حاول الكاتب التأكيد عليها، هى أن التقدم لا يرجع فقط لاعتبارات اقتصادية من تراكم رؤوس الأموال، أو توافر الموارد الطبيعية، أو تحقيق الثورة العلمية والتكنولوجية، أو اختيار النظم والسياسات الاقتصادية المناسبة، وإنما يرجع بالدرجة الأولى، إلى توافر أو عدم توافر مقومات الثقة والاطمئنان فى علاقات المجتمع، وهكذا فإن الثقة أو ثقافة الثقة هى أساس تقدم الأمم، فالمجتمعات القائمة على الثقة استطاعت أن تقطع أشواطا بعيدة من التقدم فى حين أن المجتمعات التى تقوم العلاقات فيها على الشك والريبة والتربص تكون غير قادرة على الخلاص من أوضاع الماضى، ولا تستطيع أن تتطلق للتعامل مع العالم الجديد.
ومن ثم فتوفير البيئة التى تقوم على الثقة والشفافية والتسامح والحرية تعد شرطا ضروريا لقيام الدولة بوظائفها
ولقد أدى هذا إلى إثارة العديد من التساؤلات حول الدولة ووظائفها وكيفية قيامها بهذه الوظائف بالكفاءة والفعالية المطلوبة فى ظل العولمة، وفى هذا التقرير الذي يعنى بتحديد الوظائف الجديدة للدولة فى عصر العولمة سيتم تحديد أهم المتغيرات الجديدة ذات التأثير على الدولة، ثم أهم الوظائف والمهام الجديدة للدولة الناتجة عن هذه المتغيرات مع تحديد المتطلبات اللازمة لقيام الدولة بهذه الوظائف.
أولا - أهم المتغيرات ذات التأثير على الدولة فى عصر العولمة:
تعددت الآراء التى قدمها العلماء والباحثون حول المتغيرات ذات التأثير على الدولة فى عصر العولمة، ويمكن تصنيف هذه الآراء على النحو التالى:
أ- الاتجاه القائل بالتحول من مفهوم الدولة القومية إلى الدولة الشبكية: يرى أنصار هذا الاتجاه أن العالم يتحول من حالة الدولة القومية صاحبة السيادة على إقليمها وسكانها إلى حالة الشبكات عبر القومية، فالشبكات المالية والتجارية والتكنولوجية والإعلامية والثقافية تحدد الواقع القائم فى العالم، ومن ثم فعلى الدول إن تحاول التكيف مع هذا الواقع الجديد من خلال إعادة الهيكلة الداخلية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وإداريا.
ويستند أنصار هذا الاتجاه إلى أن الفرضية القائلة بأن السياسة بالضرورة سياسة قومية قد تحطمت، فرفاهية المواطن لم تعد تعتمد على أفعال حكومته بقدر ما تعتمد أساسا وأكثر من ذى قبل على أفعال وقرارات يتم التوصل اليها خارج حدود دولته، وبواسطة أبنية ومؤسسات تتخذ قراراتها بطريقة تجميعية، فإدارة الاقتصاد القومى لا تتحدد من خلال الحكومات القومية، وإنما من خلال المؤسسات الخارجية ويستوى فى هذا الدول الغنية والدول الفقيرة، والكثير من الموضوعات السياسية التى كان يعتقد أنها من صميم اختصاصات الحكومات القومية صارت لها اليوم أبعادها الخارجية الهامة والمؤثرة.
ومن ثم فالعولمة قد أحدثت هزة عنيفة للمفهوم التقليدى للدولة بعناصره الثلاثة، فواقعيا لم يعد الإطار المكانى، أى الإقليم خاضعا خضوعا تاما ومطلقا لسيادة الدولة وسلطتها، كما كان الحال من قبل، كما أن العنصر السكانى لم تعد ارتباطاته ومصالحه محصورة فى نطاق إقليم الدولة فحسب، بل امتدت هذه الارتباطات والمصالح امتدادا أفقيا خارج نطاق إقليم الدولة، كما أن السلطة السياسية التى استندت فى ممارسة القوة إلى مفهوم السيادة تواجه إشكالية تأكل السيادة التقليدية، ففى ظل العولمة وآلياتها ومؤسساتها لم تعد السلطة السياسية مطلقة اليد أو صاحبة السلطة المطلقة فى ممارسة بعض مظاهر السيادة التقليدية تفرض الضرائب وتحديد سعر الضريبة الجمركية، كما لم تعد مطلقة اليد فى استخدام العنف والقوة القهرية فى مواجهة مواطنيها.
وكل هذه المتغيرات تفرض بالضرورة وفقا لهذا الاتجاه إحداث تغيير جذرى فى بنية الدولة للتحول إلى الدولة الشبكية التى يمتد تأثيرها خارج نطاق حدودها القومية، ومن ثم فنقطة الاختلاف الرئيسية بين الدولة القومية والدولة الشبكية التى هى فى حيز التشكيل أن الأولى ترتبط بإطار إقليمى محدد تمارس فيه نشاطها، فى حين أن الثانية لا تقوم على إطار اقليمى محدد.
2- الاتجاه القائل بأن العولمة قد أخضعت الدولة: يرى أنصار هذا الاتجاه أن العمليات والأبنية العولمية ستنال بشدة من قدرات الدولة وفعاليتها للقيام بوظائفها، فآليات العولمة حولت الدولة إلى منفذين وأدوات فى أيدى قوى ليس للدول أملى بالتحكم فيها سياسيا، ومن ثم، فبينما تظل مقولات السيادة وتراب الوطن من سمات النظام الدولى، إلا انه قد جرى إعادة تركيبها وموضعتها على مواقع مؤسسية أخرى خارج الدولة و خارج نطاق الوطن.
فالعولمة أدت إلى إعادة توزيع القوى بين الدول والأسواق والمجتمع المدنى، فان كانت الحكومات لم تفقد قدرتها الذاتية بصورة مطلقة على التحكم في عناصر قوتها فى ظل العولمة، إلا أنها وجدت من يشاركها فى القيام بأدوارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، وذلك من خلال رجال الأعمال والمنظمات الدولية والجمعيات الأهلية غير الحكومية ووسائل الإعلام وغيرها.
3- الاتجاه القائل بأن العولمة قد أخلت بالتوازن الذى قامت عليه الدولة القومية بين الاقتصاد والسياسة: ويعد الفين توفلر اول من عبر عن هذا الاتجاه فى كتابه تحول السلطة، Power Shift الذى صدر فى مطلع التسعينيات من القرن العشرين وأستند فى تحليله إلى أن أى نظام سياسى سواء كان ديموقراطيا أم غير ديموقراطى يتطلب درجة من التوافق بين الطريقة التى ينتج بها الشعب ثروته والطريقة التى يحكم بها نفسه، لأنه إذا حدث تنافر بين الجانبين فسينتهى الأمر بأن يحطم أحدهما الآخر، ويستند فى ذلك إلى الخبرة التاريخية، إذ يذكر أنه على امتداد التاريخ عندما اخترعت البشرية نظاما كليا لإنتاج الثروة فإنها اخترعت أيضا أشكالا للحكم توافق معه، والدولة القومية نموذج لهذا التوافق الذى حدث فى عهد الثورة الصناعية، ومن ثم فإن صح أن هناك نظاما اقتصاديا يقوم على المعرفة ليحل محل النظام الإنتاجى المصنعى، فعلينا أن نتوقع صراعا تاريخيا جديدا لإعادة إنتاج مؤسساتنا السياسية كى تتوافق مع النظام الاقتصادى الجديد.
وقد ركز التقرير السنوى عن التنمية عام 1997 الذى أصدره البنك الدولى بعنوان الدولة فى عالم متغير، على كيفية تحقيق التوافق بين الدولة والمتغيرات الجديدة الناتجة عن العولمة، مشيرا إلى ضرورة ابتكار نماذج تشترك فيها الدولة مع الأسواق والمجتمع المدنى للتعامل مع الواقع الجديد، ويحاول التقرير تقديم نموذج متوازن للعلاقة بين الجانبين السياسى والاقتصادى فى هذا الصدد.
ويرصد "بيير بتيجرو" ظاهرة هامة فى صدد العلاقة بين المجال السياسى والمحال الاقتصادى فى ظل العولمة إذ يقول، إذا كان الانتقال من القومى إلى الدولى إلى العولمى يعود إلى حد كبير الى التطور التكنولوجى، فإن هذا التطور يتيح بدوره فهم الاختلافات التى طرأت على المجالات والأزمنة التى لم تعد واحدة بالنسبة للمجالين الاقتصادى والسياسى، فبينما تتجه الساحات الاقتصادية نحو الاندماج معا، تميل الساحات السياسية إلى التجزؤ، وعندئذ قد يدعم هذا التجزؤ السياسى النفوذ الاقتصادى بقدر متزايد، والواقع ان تباعد الترافق بين المجالين الاقتصادى والسياسى يلحق الأضرار بالسلطة السياسية للدول.
وباختصار تتجاهل العولمة الحدود السياسية وتدمج معا الساحات الاقتصادية، وهكذا تنشأ على هامش نطاقات مسئولية الدول قوة جديدة متنفذة لا اسم لها ولا وطن ولكنها رهيبة.
ويؤكد "يتجرو" على أهمية تحقيق التوازن بين الجانبين السياسى والاقتصادى وذلك لعلاج المشكلات الناتجة عن العولمة الاقتصادية، خاصة ما يتعلق باستبعاد وتهميش قطاعات اجتماعية كبيرة، ويرى أن هذه الإشكالية تفرض إعادة تعريف النشاط السياسى نفسه، ويتعين على الجانب السياسى أن يتوصل إلى وسيلة ليعيد الاقتصاد إلى غايته الإنسانية، ولن تحقق العولمة ما يتوجب عليها أداؤه إلا إذا قبلت أن تفرض عليها السلطة السياسية التى أعيد ابتكارها توجها يحترم مجموع الأفراد، فما حققته السياسة فى الماضى من أجل الاقتصاد والأفراد من خلال خلق أسواق قومية يجب أن تحققه من جديد فى الوقت الراهن بأن تجعل من نفسها الحارس اليقظ والمثابر للأهداف الإنسانية فى النشاط الاقتصادى.
من خلال العرض المتقدم يمكن القول بأن المتغيرات ذات التأثير على الدولة فى عصر العولمة قد بلورت رؤى ثلاث للدولة، الأولى تدور حول ضرورة التحول من الدولة القومية إلى الدولة الشبكية، وذلك كى يتواءم المجال السياسى مع المجالين الاقتصادى والتكنولوجى، الثانية تدور حول ضرورة التوصل إلى سبل لعلاج الضعف الذى تعرضت له الدولة نتيجة العولمة، والثالثة تركز على أن التطورات التى شهدها العالم قد أدت إلى إحداث خلل فى التوازن الذى قامت عليه الدولة القومية بين الاقتصاد والسياسة، وأن إعادة هذا التوازن أمر ضرورى لكى تحقق العولمة أهدافها، وأن هذا التوازن يتم من خلال إعادة ابتكار الدولة، بما يتواءم مع المستجدات، وإن كانت طبيعة هذه الدولة المبتكرة إن صح التعبير تختلف عن مفهوم الدولة الشبكية، إذ يركز الاتجاه الثالث على الجانب الأخلاقى والإنسانى لهذه الدولة المطلوب ابتكارها.
ثانيا: فى المهام والوظائف الجديدة للدولة فى عصر العولمة
لاشك فى أن المتغيرات الناتجة عن العولمة قد أفرزت واقعا سياسيا جديدا داخليا وإقليميا وعالميا، هذا الواقع الجديد له قضاياه ومشكلاته الخاصة. وبالتالى يحتاج إلى أساليب مبتكرة للتعامل معه خاصة وأنه يتسم بالتغير الجذرى السريع والمستمر، الأمر الذى يؤثر على وظائف الدولة فى هذا العصر.
والجديد فى مجال وظائف الدولة، يتمثل فى تغير محتوى هذه الوظائف وفى نطاقها، فنطاق قيام الدولة بوظائفها قد اختلف أفقيا ورأسيا، أفقيا بمعنى إمكانية امتداده خارج إقليم الدولة، ورأسيا بمعنى انه صار يمتد من القمة إلى الوحدات المحلية الصغيرة، هذا بالإضافة إلى ضرورة تغيير آليات القيام بهذه الوظائف. من ناحية أخرى برزت وازدادت الأهمية النسبية لبعض الوظائف كالوظيفة الاقتصادية للدولة تجاه ازدياد أهمية العوامل الاقتصادية، من الواقع المعاصر، والوظيفة الاتصالية للدولة التى صارت لها أبعادها الهامة الجديدة.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن للتطور التكنولوجى الهائل فى هذا العصر آثارا هامة على وظائف الدولة، خاصة فيما يتعلق بأساليب القيام بتنفيذ هذه الوظائف فقد أتاح هذا التطور التكنولوجى وسائل وأساليب جديدة للدولة تستطيع من خلالها القيام بوظائفها بجودة أعلى وتكلفة اقل، وبالسرعة الملائمة لعملية التغير فى هذا العصر.
وفى نطاق دراسة وظائف الدولة فى عصر العولمة سيتم استعرض هذه الوظائف فى نطاق مجموعتين أساسيتين هما:
1- مجموعة الوظائف المرتبطة بطبيعة الدور الذى تقوم به الدولة فى هذا العصر، وتشمل وظائف الدولة بوصفها صاحبة السيادة والسلطان، ووظائفها كإطار نظامى، ووظائفها كفاعل دولى.
2- مجموعة الوظائف النوعية للدولة كالوظيفة الاقتصادية، والاتصالية والأمنية والاجتماعية وغيرها.
ولا شك فى أن هناك تداخلا بين المجموعتين، ولكن الباحث رأى أن تناول هذه الوظائف على هذين المستويين يمكن أن يفتح آفاقا جديدة للتعرف على وظائف الدولة فى عصر العولمة.
مجموعة الوظائف المرتبطة بطبيعة الدور الذى تقوم به الدولة فى عصر العولمة
تقوم الدولة بعدة أدوار فى عصر العولمة، فهناك دور للدولة بوصفها لازالت صاحبة السيادة والسلطان، ودور للدولة بوصفها تمثل إطارا نظاميا للتفاعلات السياسية فى المجتمع، ودور للدولة كفاعل دولى، وفى نطاق كل دور من هذه الأدوار تقوم الدولة بعدة وظائف وفيما يلى عرض لتلك الوظائف عند كل مستوى من هذه المستويات.
أ- وظائف الدولة بوصفها صاحبة السيادة والسلطان.
بالرغم من التغير الواضح الذى طرأ على مفهوم السيادة الكلاسيكى وعلى احتكار الدولة للسلطان المطلق فى نطاق إقليمها، إلا أن هذا لم يؤد إلى إلغاء دور الدولة كصاحبة للسيادة والسلطان، بل إن الملاحظ أن الحالات التى تفككت فيها الدولة وتلاشت سلطتها قد أنتجت نوعا جديدا من السلطة كما هو الحال فى الصومال على سبيل المثال، وكذلك فى الدول التى تشهد حروبا أهلية، ظهر نوع من أنواع السلطة فى المناطق البعيدة عن سلطان الدولة.
ومن ثم فالتحول الذى حدث يتمثل فى التحول من السيادة المطلقة والسلطان المطلق إلى السيادة النسبية والسلطان النسبى، ومن ثم فالدولة تمارس وظائفها فى بعض المجالات بوصفها صاحبة السيادة والسلطان المطلق، وفى مجالات آخرى تمارس هذه الوظائف بوصفها تتمتع بالسيادة والسلطان النسبى، فى الحالة الأولى تكون مطلقة اليد فى التصرف، وفى الحالة الثانية تكون مقيدة بالعديد من القيود خارج نطاق تحكمها.
فالحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلى وحماية الملكية الخاصة والعامة، تدخل فى نطاق الوظائف التى تتمتع فيها الدولة بالسلطان والسيادة المطلقة أو شبه المطلقة، فى حين أن الوظائف التى تدخل فى نطاق فرض الضرائب والجمارك على سبيل المثال فانها تواجه بالعديد من القيود الخارجة عن نطاق سيطرتها وتحكمها.
ب- وظائف الدولة بوصفها إطارا نظاميا.
يركز الإطار النظامى للدولة على تنظيم النطاق السياسى، فالدولة كإطار نظام تقوم بتنظيم علاقات القوة فى المجتمع، استنادا إلى السلطة المنظمة الخاضعة للقانون والتى تعتمد فى أدائها لوظائفها على مجموعة من المؤسسات السياسية النابعة من المؤسسة السياسية الأم وهى الدولة، هذا الإطار النظامى يعبر عن واقع سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى معين، تغير هذا الواقع بفعل العولمة، يفرض تطوير هذا الإطار النظامى بما يتلاءم مع المستجدات ومن هنا تبرز الوظيفة التطويرية للدولة فى ظل العولمة، وتشمل هذه الوظيفة تطوير مؤسسة الدولة ذاتها. والمؤسسات السياسية التابعة لها، هيكليا ووظيفيا وفكريا، هذا بالإضافة إلى ضرورة إعادة تحديد الحيز السياسى الرسمى والحيز السياسى المدنى، وإعادة تنظيم العلاقة فيما بينهما بما يكفل تحقيق التوافق والتكامل بينهما، بعبارة أخرى أصبح من الضرورى إعادة تنظيم العلاقة بين السياسة والمجتمع، فإن كانت فترة الحرب الباردة قد شهدت اتساعا ملحوظا للحيز السياسى الرسمى بحكم الواقع القائم آنذاك، فإن المرحلة الحالية تشهد اتساعا ملحوظا لنطاق المجتمع المدنى وانحسارا نسبيا للنطاق السياسى الرسمى، والأمر يتطلب الوصول إلى صيغة متوازنة بين النطاقين تكفل تحقيق التكامل والتوافق والانسجام فيما بينهما، بما يؤدى إلى زيادة كفاءة وفعالية الإدارة السياسية للمجتمع.
جـ - الدولة كفاعل دولى
فى ظل العولمة لم تعد الدولة هى الفاعل الدولى الوحيد، فثمة فاعلان دوليان آخران، ربما يكونا أكثر تأثيرا وفعالية فى العديد من المجالات، فهناك الشركات العملاقة متعددة القوميات بثقلها المالى والاقتصادى والسياسى، وهناك المؤسسات الدولية التى تلعب دورا هاما فى عالم السياسة كمجلس الأمن ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد المالى، والبنك الدولى، وكافة المنظمات الدولية الأخرى المتخصصة فى مجالات عديدة، كما أن هناك المنظمات الأهلية غير الحكومية ذات الطابع العولمى والكونى، كمنظمة الشفافية، وحقوق الإنسان وغيرها، هذا بالإضافة إلى وجود بعض الشخصيات ذات الثقل المؤثر بفعل قوتهم المالية والعلمية، والفكرية وقدرتهم على التأثير فى الأحداث السياسية على المستوى الكونى، هذا الوضع الجديد لن يؤدى الى اختفاء دور الدولة كفاعل دولى، لأن الدولة كفاعل دولى هى مناط التحمل بالالتزامات والمسئوليات، فى حين أن هذه القوى الأخرى لا ترغب بل تحاول التهرب من التحمل بمثل هذه الالتزامات.
وفى ظل وضع كهذا تبرز وظيفة هامة للدولة نطلق عليها الوظيفة التنظيمية للدولة وتدور حول قيامها بتنظيم عملية التحمل بالالتزامات والمسئوليات، بما يتلاءم والحفاظ على كيانها الذاتى ويوفر لها القدرة على الوفاء بهذه الالتزامات تجنبا لأية ضغوط دولية أو خارجية.
هذا بالإضافة إلى ضرورة القيام بتنظيم علاقات الدولة بالفاعلين الآخرين من غير الدول، بما يؤدى إلى زيادة قدرتها، وكفاءتها فى التعامل مع هؤلاء الفاعلين، وبما يساعدها على زيادة قدرتها لاستيعاب المتغيرات النابعة من هؤلاء الفاعلين والمؤثرة عليها.
مجموعة الوظائف النوعية للدولة فى عصر العولمة
إذا ما رجعنا إلى الأدبيات المعاصرة التى عنيت بدراسة الدولة ووظائفها الجديدة فى عصر العولمة، سنلحظ اهتماما وتركيزا واضحا على مجموعة الوظائف الاقتصادية للدولة، وربما يرجع هذا إلى ازدياد أهمية العوامل الاقتصادية فى الواقع المعاصر، والتغيرات الهامة التى طرأت على الأنشطة الاقتصادية، والتحول الذى يشهده العالم من الاقتصاد المصنعى إلى اقتصاد المعرفة، هذا بالإضافة إلى أن للعوامل الاقتصادية تأثيرها المباشر على المواطنين وعلى المجتمع.
وبالرغم من هذا التركيز على مجموعة الوظائف الاقتصادية للدولة، إلا أن الباحث يرى ان ثمة مجموعات آخرى من الوظائف النوعية للدولة قد اكتسبت أهمية نسبية خاصة فى الواقع المعاصر، بالإضافة إلى حدوث تحول فى مضمون ومحتوى بعض الوظائف الأخرى، وفيما يلي عرضا لأهم هذه الوظائف النوعية الجديدة والتى تغير محتواها وازدادت أهميتها.
أ- مجموعة الوظائف الاقتصادية للدولة.
خصص البنك الدولى تقريره السنوى عن التنمية فى العالم عام 1997 لموضوع الدولة فى عالم متغير، وحدد التقرير الوظائف الاقتصادية للدولة على النحو التالى:
1- إيجاد قاعدة أساسية من القانون وحماية حقوق الملكية.
2- توفير بيئة حميدة للسياسة العامة تتسم بالشفافية والمرونة وعدم الفساد.
3- الاستثمار في البشر والبنية الأساسية.
4- حماية المستضعفين.
5- حماية البيئة الطبيعية.
ويمكن القول بأن معظم الأدبيات التى عنيت بالوظائف الاقتصادية للدولة قد اتفقت حول ضرورة قيام الدولة بالوظائف التالية فى المجال الاقتصادى:
1- وضع القواعد القانونية المنظمة للنشاط الاقتصادى، وتوفير الضمانات القانونية والإدارية اللازمة لقيام القطاع الخاص بدوره فى النشاط الاقتصادى مع متابعته ووضع الضوابط اللازمة لامتثاله للقواعد القانونية المنظمة لنشاطه، ومن ثم فوضع القواعد القانونية وحده لا يكفى، وانما لابد وأن يرتبط به القيام بمهمة المتابعة ووظيفة الضبط الملزم للامتثال لهذه القواعد.
2- توفير الظروف الملائمة للمنافسة ومنع الاحتكار، وذلك من خلال تفعيل مبدأ الشافية فى المعاملات والمعلومات، والسعى إلى مقاومة الفساد وصولا إلى مستوى تقل فيه درجة الفساد إلى اقل درجة ممكنة.
3- وضع منظومة من السياسات المالية والنقدية المرنة، القادرة على تمكين الدولة من إدارة النشاط الاقتصادى وتوجيهه، بما يحقق الأهداف المطلوبة للدولة ككل، ويعالج أى خلل فى التوجهات الاقتصادية التى يمكن أن تحدث نتيجة لنظام اقتصاد السوق.
4- علاج الخلل الذى قد يحدث فى توزيع الدخل، من خلال منظومة من السياسات الاجتماعية المتكاملة التى تتعامل مع الآثار الاجتماعية غير الحميدة المحتملة الناتجة عن ذلك.
5- إدارة الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية المحتملة من خلال وضع منظومة من السيناريوهات المحتملة وتطويرها باستمرار، وإعداد فرق لإدارة الأزمات المتوقعة والمحتملة.
ب- مجموعة الوظائف الاتصالية للدولة فى عصر العولمة.
ازدادت أهمية الوظائف الاتصالية للدولة فى عصر العولمة، خاصة مع بروز بعض الجوانب الاجتماعية السلبية للعولمة، كازدياد عدد المستبعدين من دائرة العمل والنشاط الاقتصادى، الأمر الذى أدى إلى بروز الجانب اللا إنسانى للعولمة، هذا بالإضافة إلى التطور الهائل فى تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والذى أدى إلى تغير العديد من المفاهيم المرتبطة بالوظيفة الاتصالية للدولة.
وتوضح الأدبيات التى عنيت بتحليل الوظائف الاتصالية للدولة بعض القضايا والاتجاهات الهامة بالنسبة لهذه الوظائف أهمها ما يلى:
1- أوضحت بعض الدراسات إمكانية تركيز الوظيفة الاتصالية للدولة نحو إدارة البطالة الهيكلية والاستبعاد الاجتماعى الملازم للعولمة الاقتصادية، ومن ثم تتمثل الوظيفة الاتصالية للدولة وفقا لهذه الدراسات نحو القيام ببث كم هائل من المنتجات الإعلامية والاتصالية ذات المضمون العولمى، مستفيدا من الإمكانات التكنولوجية الهائلة فى هذا المجال من أجل خلق شعور لدى المستبعدين اجتماعيا واقتصاديا بأنهم يعيشون فى واقع مواز للواقع الحقيقى، بعبارة أوضح بيع الوهم للمستبعدين من خلال الصورة والكلمة وتغيبهم عن واقعهم الحقيقى بكل ما فيه من سلبيات، ويرى بعض المحللين ان هذا يفسر حجم الاستثمارات الضخمة فى هذا المجال، وقيام المؤسسات الضخمة المتخصصة والقادرة على استخدام شتى أساليب التكنولوجيا الحديثة فى تقديم منتجات اتصالية يتم بثها عبر وسائل الإعلام المختلفة.
2- اتجهت دراسات أخرى إلى التنبيه على أن آليات نظام السوق لا تتلاءم مع كافة الجوانب الانسانية، وأن المبالغة فى تفعيلي قيم نظام السوق التى تجعل كل شئ قابلا للبيع والشراء على المستوى الداخلى والمستوى الكونى فى عصر العولمة، من شأنه أن يهدد القيم والمبادئ الإنسانية، ومن ثم على الدولة أن تقوم بوظيفتها الاتصالية فى مجال بلورة القيم الإنسانية اللازمة للجم جماح النشاط الاقتصادى، وذلك من خلال عملية التنشئة التى تساعد على خلق الوعى الأخلاقى لدى كل أبناء المجتمع، بما يقلل من الأنانية والنزعة اللاإنسانية للعولمة.
3- أوضحت دراسات أخرى انه فى ظل ثورة الاتصال والمعلومات يصعب على أى دولة حجب المعلومات عن مواطنيها، الأمر الذى يتطلب التركيز على تقديم المعلومات أيا كانت الى المواطنين، مما يدعم من مصداقية الدولة لدى مواطنيها، ويقوى من ارتباطهم بها.
4- أشارت دراسات أخرى إلى أن الوظيفة الاتصالية للدولة فى عصر العولمة تتمثل فى وضع البنية الأساسية لمجتمع المعلومات ووضع القواعد والنظم القانونية التى تيسر انتقال وتداول وإنتاج المعلومات فى المجتمع، بما يوفر التحول السلمى غير العنيف إلى مجتمع المعلومات الذى يتسم بخصائص خاصة.
5- اهتمت دراسات آخرى بأهمية الوظيفة الاتصالية من حيث أنها الإدارة القادرة على إدارة التعددية الثقافية فى المجتمع، فالتعددية الثقافية تعنى وجود اختلافات بين العناصر المكونة لمجتمع ما، وإحياء التعددية الثقافية هي إحدى الظواهر المصاحبة للعولمة، والتعامل مع هذه الظاهرة يتطلب تطوير الوظيفة الاتصالية للدولة بما يتواءم معها، فلم يعد الكل فى واحد كما كان الأمر من قبل، وإنما صار هذا الكل مجزءا، وليس الهدف هو الدمج القسري لهذه الأجزاء من خلال الوظيفة الاتصالية، وإنما تحقيق أو خلق رابطة التكامل فيما بين هذه الأجزاء بما يحافظ على التوازن بين ما هو مشترك وما هو متميز لكل جزء من هذه الأجزاء.
6- وتقدم دراسات أخرى تحليلات أمبريقية عن الوظيفة الاتصالية للدولة، من خلال تحقيق التكامل من الأداء بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى، وتشير دراسات أخرى إلى أن الوظيفة الاتصالية للدولة فى عصر العولمة تتمثل فى تحقيق الريط والتكامل بين الدائرة الوطنية والإقليمية والعالمية فى كافة المجالات.
وهكذا يتسع نطاق مجموعة الوظائف الاتصالية للدولة فى عصر المعلومات أفقيا ورأسيا، وتتنوع فى ذات الوقت توجهات وأهداف هذه الوظائف، وتتنوع كذلك الأساليب والأدوات اللازمة للقيام بهذه الوظائف.
جـ - مجموعة الوظائف الاجتماعية للدولة فى عصر العولمة.
تمثل الظواهر الناتجة عن العولمة فى أبعادها الاجتماعية تحديا واضحا للوظائف الاجتماعية التقليدية للدولة، فدولة الرفاهية والاجتماعية التى برزت فى عصر الثورة الصناعية، لتعالج الآثار الاجتماعية السلبية لذلك العصر، لم تعد قادرة على الاستمرار فى عصر العولمة. لم تعد معظم الدول قادرة على توفير الموارد اللازمة لتمويل الأنشطة الاجتماعية لدولة الرفاهية الاجتماعية، كما كان الأمر من قبل.
فإعانة البطالة التى تقدمها الدولة للمتعطلين عن العمل لم تعد كافية للتعامل مع مشكلة البطالة، حيث أن مدة التعطل عن العمل لا يمكن التنبؤ بها، هذا بالإضافة إلى أن طبيعة المشكلة قد اختلفت فى عصر العولمة، حيث تحولت إلى بطالة هيكلية، بمعنى أن النظام الاقتصادى الجديد يحمل فى طياته نسبة كبيرة من المتعطلين الذين لا يمكن توفير أعمال لهم لأسباب مختلفة، ومن ثم فعلاج المشكلة فى ظل هذا النظام لا يعنى القضاء على مشكلة البطالة، وإنما يعنى التكيف مع هذه المشكلة بآليات ووسائل جديدة، منها الاهتمام بتوفير فرص عمل مؤقتة، توجيه العمالة نحو المشروعات الصغيرة، توفير موارد لتمويل الأنشطة البسيطة فيما عرف ببنوك الفقراء. وهكذا، لم تعد إعانة البطالة هى الحل، وانما ابتكار وسائل جديدة لخلق فرص عمل ولو مؤقتة أو فردية، أو ابتكار أنواع جديدة من الأعمال التى تستوعب أعدادا صغيرة من العمالة، أو إعادة تدريب وتأهيل العمالة بما يتناسب والمهارات المطلوبة للأعمال الجديدة والمهن الجديدة الناتجة عن التطور التكنولوجى فى شتى المجالات.
من ناحية أخرى بدأت نظم التأمينات الاجتماعية والمعاشات تواجه العديد من المشكلات الناتجة عن انخفاض سن التقاعد، وارتفاع متوسط عمر المستفيدين من هذء النظم، الأمر الذى يفرض المزيد من الأعباء المالية على هذه النظم، ومن ثم لم يعد المفهوم التقليدى للتأمينات الاجتماعية والمعاشات قادرا على التعامل مع الواقع الجديد، ومن هنا تبرز ضرورة القيام بإيجاد نظم ووسائل جديدة للتعامل مع هذه القضية.
وفى مجال إدارة الصراع الإجتماعى فى المجتمع بطريقة سلمية، لم تعد المسألة بالبساطة السابقة، بحيث يمكن إدارة الصراع الإجتماعى من خلال تقديم الدعم الحكومى المباشر وغير المباشر للفئات الضعيفة أو المضارة، حيث أن العلاقات الاجتماعية الصراعية لم تعد محددة كما كان الأمر من قبل، فإن كان الصراع فى المرحلة السابقة مركزا بين الأجراء وأصحاب رؤوس الأموال، فالواقع الحالى يشهد صراعا على مستويات عديدة، ليس أهمها أو أبرزها الصراع بين الأجراء وأصحاب رؤوس الأموال، فثمة صراع بين العمال بين أصحاب المهارات الجديدة المطلوبة فى سوق العمل وأصحاب المهارات التقليدية ومحدودى المهارة، وصراع بين أصحاب الأعمال لا يقل حدة، بين كبار رجال الأعمال ومتوسطى رجال الأعمال وصغار رجال الأعمال، وثمة صراع بين المنتجين والمستهلكين، ومن ثم فإدارة الصراع الإجتماعى السلمى كوظيفة من الوظائف الاجتماعية للدولة صارت مهمة بالغة التعقيد والتشابك.
ومن الوظائف الاجتماعية الهامة للدولة، وظيفة تحقيق العدالة الاجتماعية، هذه الوظيفة تغير محتواها فلم تعد قاصرة على علاج الخلل في توزيع الدخل فحسب، وإنما اتسعت لتشمل تحقيق العدالة فى التعليم بمعنى توفير الفرص المتكافئة أمام المواطنين للحصول على العلم والمعرفة الحديثة المعاصرة، وكذلك الحال فى مجال الصحة والغذاء ومياه الشرب النقية والإسكان والصرف الصحى وغيرها.
كذلك برزت مشكلات الاستبعاد الإجتماعى والتهميش بوصفها مشكلات اجتماعية حادة تهدد الاستقرار والاجتماعى، وهو ما يدخل علاج هذه المشكلات فى نطاق الوظائف الاجتماعية للدولة.
من خلال هذا العرض يمكن تحديد أهم الوظائف الاجتماعية للدولة فى عصر العولمة على النحو التالى:
1- إدارة الصراع الإجتماعى بأبعاده ومستوياته الجديدة المتداخلة والمعقدة وبما يؤدى الى تقليل حدة العنف الإجتماعى لأقل درجة ممكنة. وهو ما يحقق الاستقرار والاجتماعى المنشود أو الدرجة الملائمة من هذا الاستقرار، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص وقوى المجتمع المدنى غير الحكومية.
2- الاستثمار فى مجال تنمية الموارد البشرية فى التعليم والتدريب، حيث أصبح التعليم مدخلا لتحقيق العدالة الاجتماعية بمفهومها الجديد، لأن محور الانقسام والاجتماعى قد حار بين من يعلمون ويعرفون ومن لا يعلمون ولا يعرفون، ومن ثم فقيام الدولة بتوفير الفرص المتكافئة للراغبين فى التعليم والقادرين عليه، واكتساب المعرفة والمهارات اللازمة لعصر العولمة، يمثل جوهر تحقيق العدالة الاجتماعية فى هذا العصر، مع الأخذ فى الاعتبار أن عملية التعلم لم تعد قاصرة على مرحلة سنية معينة من حياة الإنسان، بل صارت عملية مستمرة على مدى حياته.
3- تطوير نظم التأمينات الاجتماعية والمعاشات بما يتلاءم والظروف الجديدة وابتكار الوسائل الملائمة لإدارة واستثمار أموال التأمينات الاجتماعية، بما يؤدى إلى توفير موارد جديدة لتمويل نظم التأمينات الاجتماعية.
4- تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين فى المجالات المختلفة من خلال آليات ووسائل جديدة تقوم على أساس الشراكة بين الدولة والمواطنين وقوى المجتمع المدنى، ومن خلال الأسلوب اللامركزى فى تحديد الاحتياجات وتوفير الوسائل والسبل الملائمة لتلبية هذه الاحتياجات، وهو ما يعنى إحياء دور المجتمع المدنى فى مجال تقديم هذه الخدمات.
5- علاج مشكلة الاستبعاد والتهميش الإجتماعى بوسائل جديدة ومبتكرة، وذلك من أجل تجنب حدوث العنف والاجتماعى أو التقليل من آثاره السلبية إن حدث.
6- الاهتمام بمشكلة الفقر من خلال توفير آليات نابعة من خبرة المجتمع فى تحقيق التكافل الاجتماعى، والتحول من أسلوب تقديم الإعانة إلى أسلوب المساعدة على الخروج من دائرة الفقر.
7- علاج الجوانب الاجتماعية لمشكلة البطالة، من خلال التعامل مع المجتمعات المحلية وتحديد طبيعة المشكلة فى كل مجتمع محلى، والبحث عن أساليب نابعة من هذه المجتمعات المحلية لعلاج مشكلة البطالة بها.
إن مجموعة الوظائف الاجتماعية بالمفهوم المتقدم تعد وظائف ذات مدلول سياسى هام، لأنها تحقق الربط والتواصل الرأسى بين قمة المجتمع السياسى وقواعده، ومن ثم فهى تلعب دورا هاما فى تحقيق التماسك فى نطاق المجتمع.
د- الوظائف الأمنية الجديدة للدولة فى عصر العولمة.
لاشك فى أن تحقيق الأمن الداخلى والحفاظ على الأمن الخارجى للدولة من الوظائف التقليدية للدولة، إلا أن الجديد فى هذا المجال يتمثل فى القضايا والإشكاليات الأمنية الجديدة التى تواجه الدولة فى عصر العولمة، الأمر الذى يفرض تطوير مفهوم الوظيفة الأمنية للدولة، وتحديث أساليب أداة هذه الوظيفة.
وفى هذا المجال، يمكن الإشارة إلى بعض القضايا الجديدة، مثل قضية التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية للدول لاعتبارات إنسانية، وهو ما يحمل فى بعض الحالات تهديدا مباشرا لأمن الدولة، الوظيفة الأمنية فى هذا الصدد تتمثل فى تجنب حدوث أى حالات تبرر أو تفتح الباب أمام مثل هذا التدخل، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال الالتزام بتطبيق القانون بموضوعية وشفافية على جميع المواطنين دون تمييز، وتوفير سلة قضائية منضبطة.
- مقاومة التطرف والإرهاب، حيث أن ظاهرة التطرف والإرهاب من الظواهر الخطيرة التى تهدد الأمن، وعلاج هذه الظاهرة لابد وأن يجمع بين الأساليب الأمنية والنفسية والاجتماعية، فالاعتماد على القوة وحده لا يكفى للتعامل مع هذه القضية.
- التعرف على أنواع الجرائم الجديدة التى تهدد الأمن كالجرائم الاقتصادية ومنها غسيل الأموال، المضاربة على العملة الوطنية، التلاعب فى البورصة، تهريب الأموال إلى الخارج، الفساد الادارى ووضع مخطط علمى وعملى ملائم للتعامل معها، حيث أن الآثار الناتجة عن مثل هذه الجرائم على أمن الدولة لا تقل عن التهديدات الخارجية، ويدخل فى هذا الشأن الجرائم الممكن حدوثها من خلال التجارة الإليكترونية، والجريمة الدولية وتجارة المخدرات، ودفن النفايات النووية والكيمائية والبيولوجية والتقاوى الزراعية المهندسة وراثيا بما يضر بصحة الإنسان.
وهكذا نجد أن مجالات عمل الوظيفة الأمنية للدولة قد اتسعت وتعقدت بصورة غير مسبوقة، حيث أن مثل هذه الجرائم تهدد الأمن القومى للدولة من زوايا مختلفة.
وفيما يتعلق بمفهوم الأمن الخارجى والذى يدور حول الحفاظ على سلامة إقليم الدولة برا وبحرا وجوا، ومنع تعرضها للعدوان الخارجى، وتوفير القدرة اللازمة للتصدى للعدوان الخارجى فى حالة حدوثه، هذا بالإضافة إلى الدفاع عن مصالح مواطنى الدولة فى الخارج، هذا المفهوم للأمن الخارجى لم يعد قاصرا على هذه الجوانب التقليدية، فاختراق إقليم الدولة لم يعد يتم بالوسائل العسكرية المباشرة وإنما يتم بوسائل تكنولوجية متطورة من خلال الأقمار الصناعية وغيرها من وسائل جمع المعلومات الحديثة، ويتم كذلك من خلال ما يمكن ان نطلق عليه الأساليب الذكية التى تدور حول تحليل البيانات الإستراتيجية للدولة والتعرف على كيفية إدراك صانع القرار السياسى للواقع السياسى الذى يعمل به داخليا واقليميا وعالميا، ومن هنا فإن تحقيق الأمن القومى على هذا المستوى لم يعد يتم من خلال الأساليب العسكرية وحدها، وإنما من خلال أساليب جديدة تعتمد على العلم والمعرفة والقدرة على التحليل والتخيل.
من ناحية أخرى فقد نتجت عن العولمة تهديدات جديدة للأمن القومى عند هذا المستوى، فبفعل الاعتماد المتبادل بين دول العالم فإن ما يقع فى هذه الدول يمكن أن يكون له آثاره على أمن الدول الأخرى، فتسرب الإشعاعات من مفاعل نووى فى دولة مجاورة أو قريبة يمثل تهديدا للأمن القومى للدولة، وحدوث صراع داخلى أو إقليمى فى منطقة ما يمكن ان تكون له آثاره السلبية على أمن دولة أخرى، فتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين من شأنه أن يخلق مشكلات أمنية للدولة التى يصل إليها هؤلاء المهاجرون، بل قد يؤدى إلى تورطها فى الصراع الدائر فى الدولة أو المنطقة المصدرة لهؤلاء اللاجئين.
هذا بالإضافة إلى أن مهمة الدفاع عن مصالح مواطنى الدولة فى الخارج، أصبحت مهمة بالغة التعقيد فى ظل اتفاقية التجارة العالمية الحرة ومؤسساتها المختلفة، فقضايا مكافحة الإغراق وحماية الملكية الفكرية، وتحقيق الأمن البيئى والاجتماعى، كلها أمور مستحدثة تدخل فى نطاق الوظيفة الأمنية للدولة فى عصر العولمة.
متطلبات قيام الدولة بوظائفها الجديدة فى عصر العولمة
لاشك فى أن هناك تغيرا قد حدث فى وظائف الدولة فى هذا العصر وقد تم تناول هذه الوظائف الجديدة للدولة، ومفهوم الوظائف الجديدة الذى استخدمناه مفهوم واسعة فهو لا يتوقف على بروز مهام جديدة لم تكن معروفة من قبل وإنما يشمل الوظائف التي يتغير مفهومها، أو التى ازدادت أهميتها النسبية إضافة إلى الجانب المتعلق بالآليات الجديدة لانجاز بعض هذه الوظائف.
والواقع أن التطور التكنولوجى وان كان قد خلق إشكاليات وقضايا جديدة للدولة المعاصرة، إلا أنه وفر العديد من الآليات التى يمكن من خلالها أن تقوم بوظائفها، ومن هنا ظهر مفهوم الحكومة الاليكترونية والسياسة من خلال الانترنيت، وغيرها من المفاهيم المستحدثة التى لازالت فى مرحلة التكوين والتشكيل، ومن ثم فأحد المتطلبات الأساسية لقيام الدولة بوظائفها الجديدة يتمثل فى ضرورة توفير البنية الأساسية اللازمة لاستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة فى المجال السياسى وفى شتى المجالات الأخرى فى المجتمع، و من ثم اهتمت الدول الثمانى الصناعية فى قمتها التى عقدت فى اليابان عام 2000 بضرورة تقديم الدعم الفنى للدول النامية، من أجل توفير هذه البنية الأساسية للتكنولوجيا الحديثة، وذلك من أجل إتاحة الفرصة للدول النامية لتطوير نفسها بما يتواءم والمتسجدات والمتغيرات الجديدة.
وبالرغم من أهمية الإدارة التكنولوجية لقيام الدولة بوظائفها الجديدة إلا أن ثمة كتابات جديدة بدأت تتحدث عن أهمية الجانب الأخلاقى الذى يتيح للدولة إمكانية القيام بهذه الوظائف والتعامل بالكفاءة والفعالية المطلوبة مع عصر العولمة، وفى هذا الإطار أصدر فرانسيس فوكوياما كتابا هاما بعنوان الثقة Trust، والفكرة المحورية التى حاول الكاتب التأكيد عليها، هى أن التقدم لا يرجع فقط لاعتبارات اقتصادية من تراكم رؤوس الأموال، أو توافر الموارد الطبيعية، أو تحقيق الثورة العلمية والتكنولوجية، أو اختيار النظم والسياسات الاقتصادية المناسبة، وإنما يرجع بالدرجة الأولى، إلى توافر أو عدم توافر مقومات الثقة والاطمئنان فى علاقات المجتمع، وهكذا فإن الثقة أو ثقافة الثقة هى أساس تقدم الأمم، فالمجتمعات القائمة على الثقة استطاعت أن تقطع أشواطا بعيدة من التقدم فى حين أن المجتمعات التى تقوم العلاقات فيها على الشك والريبة والتربص تكون غير قادرة على الخلاص من أوضاع الماضى، ولا تستطيع أن تتطلق للتعامل مع العالم الجديد.
ومن ثم فتوفير البيئة التى تقوم على الثقة والشفافية والتسامح والحرية تعد شرطا ضروريا لقيام الدولة بوظائفها
الجديدة.
بقلم : محمد سعد ابوعامود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق